كتاب الفن ومذاهبه في الشعر العربي

الطبيعة. وكنا ننتظر منه أن يتساءل هل يمكن للعقل أن يعرف ما وراء الطبيعة من مسائل البعث والنشور أو لا يمكن؟ وإذا ثبت إمكان ذلك فهل طريقنا إليه العقل أو الشعور؟ وهل يمكن للعقل أن يحكم في قضايا ما وراء الطبيعة كما يحكم في قضايا الطبيعة؟ وهل أحكام العقل المجرد تكون صوابًا دائمًا، أو أنها معرضة للخطأ؟ كل ذلك لا نجد له أثرًا عند أبي العلاء؛ لأنه لم يكن فيلسوفًا بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، وآية ذلك أنه لم يترك أي نظرية فلسفية معللة أو موضحة، وكيف له بصنع نظريات؟ إنه لم يكن يفكر التفكير الفلسفي الذي يقوم على صنع كليات؛ إنما كان يفكر تفكيرًا أدبيًّا يقوم على تشاؤم وسخط، وهو يعرض هذا التفكير في آراء متفرقة وأفكار مفككة، لا يطرد لها نظام ولا سياق فكري متماسك.
5- صياغةُ اللُّزُومِيَّاتِ:
من يقرأ اللُّزوميات وينظر فيها نظرة فنية من حيث الصياغة والتنسيق يلاحظ أن جوانب كثيرة منها واهية؛ إذ استغرقها أبو العلاء بالتَّكرار حتى كاد أسلوبه أن يسقط في غير موضع من مواضعها، نعم إنه وفق في بعض أبياتها ولكن الكثرة الغالبة يعمها الإسفاف والضعف، وكأني به نسى أسلوب الشعر الذي كان يعرفه في سقط الزَّند، وهل يستطيع الإنسان أن يؤمن بأن اللُّزوميات أنشأها أبو العلاء بعد ديوان "سقط الزند" بنفس صورة صياغته؟! على أنه ينبغي أن نعرف أن سقط الزند لا يعتبر مثلًا أعلى في الصياغة الفنية للشعر العربي، فديوان كديوان المتنبي يتفوق عليه في هذا الجانب، ولعله من أجل ذلك كان يسميه أبو العلاء: معجز أحمد، واستمر في سقط الزند دون هذا المعجز إلا في مراثيه؛ فقد أظهر فيها تفوقًا نادرًا من حيث الصياغة وخاصة مرثيته:
غير مجدٍ في ملتي واعتقادي ... نوحُ باكٍ ولا ترنُّم شادِ
وإن هذه القصيدة لتتفوق على كل ما كتبه في لزومياته، ولعلنا لا نبالغ إذا

الصفحة 394