كتاب الفن ومذاهبه في الشعر العربي

حلّ برقادةَ المسيحُ ... حلَّ بها آدم ونوحُ
حلَّ بها الله ذو المعالي ... وكلُّ شيءٍ سواه ريحُ
فالمعز في رأيه تحل فيه أرواح الأنبياء، بل يحل فيه الله -تعالى عن ذلك علوًّا كبيرًا- ومرَّ بنا شيء من هذه المبالغات عند المتنبي، وكان شيعيًّا غير أن ابن هانئ تجاوز فيه كل حد مردِّدًا عقيدة الشيعة الإسماعيلية في إمامهم، وكان هو نفسه من تابعيه ومريديه، ولعل هذا نفسه ما جعل المعز يأسف ويتحسر عليه حين بلغته وفاته.
ولسنا أول من يربط بينه وبين المتنبي؛ فقد كان الأندلسيون أنفسهم يسمونه متنبي المغرب، ومن يقرأ ديوانه يجده يحتذي على مثاله، في كثير من أشعاره. غير أنه لا يستقي منه وحده فقد كان يعجب أيضًا بمذهب المصنعين، وفسح في شعره لأخيلة وصور كثيرة كقوله في فاتحة إحدى مدائحه للمعز1:
فُتِقَتْ لكم ريحُ الجلاد بعنبرِ ... وأمدكم فلقُ الصباحِ المسْفِرِ2
وجنيتُم ثمرَ الوقائع يانعًا ... بالنَّصرِ من ورق الحديد الأخضرِ3
فقد تصور الجلاد وعراك الأبطال ريحًا عاصفًا يفوح منه العنبر والطيب، وهو يهبُّ في الصباح المشرق، وبالغ في التصور والتكلف ما شاء حتى تخيل السيوف شجرًا له ورق وثمر، وهم يجنون منه النصر والظفر. فتصوير المصنعين عنده ينتهي إلى هذه المبالغات الغريبة. ومن الحق أنه كان يحسن في هذا الباب، ولعل ذلك ما يجعل قصائده في وصف أساطيل المعز تروع قارئها لما يجد عنده من تفنن في التصوير، وهو لا يقف بهذا التفنن عند المديح ووصف الأساطيل بل يذيعه في ضروب شعره الأخرى من غزل وغير غزل، كمقطوعته المشهورة 4:
فتكتاتُ طرفُك أم سيوفُ أبيكِ ... وكئوسُ خمرٍ أم مراشفُ فيكِ
فهو إذن يخلط في شعره بين مذهبي التصنيع والتصنع، ومما لا شك فيه أنه كان معجب بالمتنبي وأنه كان يستوحيه في كثير من قصائده ومعانيه،
__________
1 الديوان ص321.
2 فتقت: فاحت، الجلاد: العراك.
3 يانعًا: ناضجًا.
4 الديوان ص531.

الصفحة 421