كتاب الفن ومذاهبه في الشعر العربي

وآخر حاملي لوائها، وبهجة أرضها وسمائها وأسوة كتَّابها وشعرائها، له عُقِد فخرها المحمول وسهم، وبه بدئ ذكرها الجميل وختم، حل اسمه من الأماني محل الأنس، وسار نظمه ونثره في الأقاصي والأداني مسير الشمس، وأحد من تضاءلت الآفاق عن جلالة قدره.."1. وقال أبو حيان عنه: "أبو عمر بن دراج القسطلي سبَّاق حلبة الشعراء العامريين وخاتمة محسني أهل الأندلس أجمعين"2! وذكره ابن شهيد فقال: "الفرق بينه وبين غيره أنه شديد أسر الكلام، ثم زاد بما في أشعاره من الدليل على العلم بالخبر واللغة والنسب، وما تراه من حوكه للكلام، وملكه لأحرار الألفاظ، وسعة صدره، وجيشة بحره، وصحة قدرته على البديع، وطول طَلَقِهِ في الوصف، وبغيته للمعنى وترديده، وتلاعبه به وتكريره، وراحته بما يتعب الناس، وسعة نفسه فيما يُضَيِّقُ الأنفاس"3.
وواضح من آراء هؤلاء النقاد جميعًا أن ابن دراج كان شاعرًا ممتازًا حتى ليجعله أبو حيان خاتمة محسني أهل الأندلس أجمعين، وهي مبالغة من بعض الوجوه؛ ولكنها تدل على حقيقة مطوية فيها، وهي أن ابن دراج يعد من الشعراء الأفذاذ الذين ظهروا في الأندلس. ونرى صاحب اليتيمة يقرنه بالمتنبي، ويظهر أنه كان يتأثره في شعره تأثرًا شديدًا لا يقل عن تأثر ابن هانئ، وإن كنا نلاحظ أنه لم يستظهر في شعره شيئًا من العبارات الشيعية والصوفية؛ غير أنه بعد ذلك يستظهر جميع خصائص المتنبي؛ فهو يميل إلى الغريب في شعره من جهة، كما يميل إلى التصنع للثقافات من جهة أخرى. ثم هو بعد ذلك كابن هانئ يعنى باللفظ الطنان وقعقعاته، وقد تعلق -مثل المتنبي- في مطلع مدائحه بشكوى الدهر والسخط على الناس في عصره، وساعده على ذلك أنه كان عصر فتن وثورات على الأمويين واستعداد لظهور ملوك الطوائف. ويظهر أنه عرف بين الثائرين الناشئين بميله للأمويين؛ إذ كان شاعرًا ابن أبي عامر كما قدمنا، فازورَّت
__________
1 الذخيرة: لابن بسام 1/ 43.
2 الذخيرة 1/ 44.
3 الذخيرة 1/ 45.

الصفحة 425