كتاب الفن ومذاهبه في الشعر العربي

عنه قلوب الملوك من حوله. يقول أبو حيان: "وكان ابن دراج من طرحت به تلك الفتنة الشنعاء واضطرته إلى النُّجعة؛ فاستقرى ملوكها أجمعين ما بين الجزيرة الخضراء وسرقسطة من الثغر الأعلى، يهز كلًا بمدحه يستعينهم على نكبته، وليس منهم من يصغي له، ولا يحفظ ما أضيع من حقه، وأُرْخِصَ من علقه1، وهو يخبطهم خبط العضاة2 بمقوله، فيصمون عنه، إلى أن مر بعقوة3 منذر بن يحيى أمير سرقسطة فألقى عصا سيره عند من بوّاه، ورحب به وأوسع قراه؛ فلم يزل عنده، وعند ابنه بعده، مادحًا لهما، مثنيًا عليهما، رافعًا من ذكرهما؛ غير باغ بدلًا بجوارهما، إلى أن مضى بسبيله، بعد أن جرت له رحمه الله على إحسانه الباهر، في فتنة البرابر، مع أملاك الجزيرة في طول الاغتراب والنُّجعة أخبار شائعة، فيها لذي اللُّب موعظة بالغة4".
وهذا الجانب في حياة ابن دراج جعله يشتعل شكوى من الدهر، وقد وجد من أستاذه المتنبي خير مدد في هذا الصدد؛ فاستعار منه هذا الصوت، وذهب يكبره ما وسعه تكبيره. وربما كان لكثرة الفتن التي عاصرها أثر في اندلاع هذه الشكوى التي تغمر شعره. وهو يخلط بين منهجي التصنيع والتصنع في قصائده، واستمع إليه يخاطب ابنه مبشرًا بما لقى في رحاب منذر بن يحيى:
أبنيّ لا تذهب بنفسك حسرةٌ ... عن غول رحلي منجدًا أو مغورا
فلئن تركتَ الليلَ فوقي داجيًا ... فلقد لقيت الصبح بعدك أزهرا
وحللت أرضًا بدِّلت حصباؤها ... ذهبًا يرفُّ لناظري وجوهرا
ولتعلم الأملاك أني بعدها ... ألفيتُ كل الصيدِ في جوفِ الفرا5
ورمى عليَّ رداءه من دونهم ... ملك تخيِّر للعلا فتخيَّرا
ضربوا قداحهم علي ففاز بي ... من كان بالقدح المعلَّى أجدرا 6
__________
1 العلق: النفيس.
2 العضاة: جمع عضاهة، وهي الخمط أو كل شجرة كبيرة ذات شوك.
3 العقوة: ما حول الدار والمحلة.
4 الذخيرة 1/ 44.
5 الفرا: حمار الوحش، ومعنى المثل واضح.
6 القدح المعلَّى: أكثر قداح الميسر حظًّا فهو أعلاها.

الصفحة 426