كتاب الفن ومذاهبه في الشعر العربي

بالشعور، وقد أحال الطبيعة من حوله إلى صور ووجوه ناطقة، واقرأ له هذا الوصف للجبل الذي اعترضه في سراه فتحدث عن لسانه قائلًا:
وَأَرعَنَ طَمّاحِ الذُّؤابَةِ باذِخٍ ... يُطاوِلُ أَعنانَ السَماءِ بِغارِبِ1
وَقورٍ عَلى ظَهرِ الفَلاةِ كَأَنّهُ ... طِوالَ اللَيالي مُفَكِّرٌ في العَواقِبِ
يَلوثُ عَلَيهِ الغَيمُ سودَ عَمائِمٍ ... لَها مِن وَميضِ البَرقِ حُمرُ ذَوائِبِ2
أَصَختُ إِلَيهِ وَهوَ أَخرَسُ صامِتٌ ... فَحَدَّثَني لَيلُ السُّرى بِالعَجائِبِ
وَقالَ أَلا كَم كُنتُ مَلجَأَ قاتِلٍ ... وَمَوطِنَ أَوّاهٍ تَبَتَّلَ تائِبِ3
وَكَم مَرَّ بي مِن مُدلِجٍ وَمُؤَوِّبٍ ... وَقالَ بِظِلّي مِن مَطِيٍّ وَراكِبِ4
فَما كانَ إِلّا أَن طَوَتْهُم يَدُ الرَّدى ... وَطارَت بِهِم ريحُ النَّوى وَالنَّوائِبِ
فَما خَفقُ أَيكي غَيرَ رَجفَةِ أَضلُعٍ ... وَلا نَوحُ ورقي غَيرَ صَرخَةِ نادِبِ5
وَما غَيَّضَ السُّلوانَ دَمعي وَإِنَّما ... نَزَفتُ دُموعي في فِراقِ الصَواحِبِ
فَحَتّى مَتى أَبقى وَيَظعَنُ صاحِبٌ ... أُوَدِّعُ مِنهُ راحِلًا غَيرَ آيِبِ
ومن يقرأ هذه القطعة يعجب بابن خفاجة ومقدرته على تشخيص عناصر الطبيعة؛ ولكن لا تظن أنه أول من ألم بالجبل على هذا النحو، فحدَّثه ذلك الحديث، فإن من يرجع إلى ترجمة مجنون ليلى في الأغاني يجد فيها الأصل الذي بنى عليه ابن خفاجة مقطوعته، فقد حدثوا أن المجنون مر بجبل التوباد، فأجهش بالبكاء، وراح يقول6:
وَأَجهَشتُ لِلتُّوبادِ حينَ رَأَيتُهُ ... وكبَّر لِلرَّحمَنِ حينَ رَآني
وَأَذرَيتُ دَمعَ العَينِ لَمّا رَأَيتُهُ ... وَنادى بِأَعلى صَوتِهِ وَدَعاني
فَقُلتُ لَهُ أَينَ الَّذينَ عَهِدتُهُم ... حَوالَيكَ في خِصبٍ وَطيبِ زَمانِ
__________
1 الأرعن: الجبل الشامخ، والغارب: الكاهل.
2 يلوث: يلف، والذوائب هنا: أعالي العمامة.
3 الأواه: العابد.
4 المدلج: السائر في الليل ومثله المؤوب. وقَالَ: استراح وقت القيلولة.
5 الأيك: الشجر المتكاثف، والورق: جمع ورقاء وهي الحمامة.
6 أغاني "طبعة دار الكتب" 2/ 53.

الصفحة 447