كتاب الفن ومذاهبه في الشعر العربي

فَقالَ مَضَوا وَاِستودَعوني بِلادَهُم ... وَمَن ذا الَّذي يَبقى مَعَ الحَدَثانِ
وَإِنّي لَأَبكي اليَومَ مِن حَذَري غَدًا ... فِراقَكِ وَالحَيّانِ مُجتمعانِ
ومن غير شك استمد ابن خفاجة من هذه المقطوعة منظومته في الجبل، مضيفًا إليها من خياله ما يكمل به الصورة من تفاصيل ودقائق جديدة؛ فقد أعطانا أولًا هيئة الجبل، وصوَّره لنا وقورًا لاث عمامته وهو يطوي الليالي مفكرًا في العواقب، ثم أخذ يفصل الحديث عمن يمرون به من مجرمين وتقاة صالحين.
وصوَّره حزينًا لفراق أصحابه ملتاعًا لوحدته من دونهم. ولعل في هذا كله ما يصور لنا جهد ابن خفاجة في إعادة الصور القديمة، وكثيرًا ما نقع عنده على صور بديعية كقوله:
لقد خلعت ليلًا علينا يدُ الهوى ... رداءَ عناقٍ مزَّقتهُ يدُ الفجرِ
وقوله في غرة فرس أشقر:
يطلعُ للغرَّةِ في شقرةٍ ... حبابةً تضحكُ في كأسِ
فهو يستمد من القديم حقًّا، ولكننا من حين إلى حين نقع عنده على أخيلة طريفة. وكان ذوقه أقرب ما يكون إلى ذوق المصنعين وما أشاعه أبو تمام من تشخيص عناصر الطبيعة، ومع ذلك كان يتصنع في أطراف كثيرة من شعره، ولعل خير ما يصور ذلك عنده ما شغف به من نقل أوصاف الطبيعة إلى موضوعات شعره الأخرى، فكما كان المتنبي ينقل أوصاف الغزل إلى الحرب كان ابن خفاجة ينقل أوصاف الطبيعة إلى الأبواب المختلفة كأن يصف ثناء ممدوحه بأنه رطب إذ يقول:
تشيمُ بصفْحَتَيهِ بروق بِشْرٍ ... تعيد بشاشةَ الرَّوضِ الجديدِ
وهو يتصنع لذلك في الرثاء كأن يقول:
في كل نادٍ منك روضُ ثناءٍ ... وبكلِّ خَدٍّ فيك جدولُ ماءِ
وَلِكُلِّ شَخصٍ هِزَّةُ الغُصنِ النَّدي ... غِبَّ البُكاءِ وَرَنَّةُ الْمُكَاءِ
أرأيت إلى هذا التصنع؟ لقد جعل ابن خفاجة الدموع السائلة على الخدود

الصفحة 448