كتاب الفن ومذاهبه في الشعر العربي

المسيحية والرهبنة، وتسرَّب في التصوف على مرِّ التاريخ بعض عناصر الغنوسطية والأفلاطونية المحدثة التي كانت شائعة في مدرسة الإسكندرية قبل الفتح العربي.
وفي هذا ما يلفتنا إلى أن مصر استبقت شيئًا من تراثها القديم في حياتها العقلية، إذ كان بها مدرسة الإسكندرية التي أنشأها البطالسة على نحو ما مر بنا وقد حافظت جملة على الفلسفة اليونانية، واستحدثت لنفسها فلسفة جديدة، هي مزيج من المسيحية والفلسفة القديمة، ومما لا شك فيه أن هذه المدرسة كانت لا تزال قائمة حين فتح العرب مصر1. على أنه ينبغي أن نلاحظ أن الدراسة فيها كانت باليونانية ثم شاركتها السريانية في أواخر العهد الروماني2، واتصل العرب مباشرة بهذه المدرسة منذ خالد بن يزيد بن معاوية الذي أمر بإحضار جماعة من علمائها لترجمة ما عندهم من كتب في الكيمياء3.
لكن ينبغي أن لا نبالغ فيما استبقته مصر لنفسها من هذه المدرسة؛ لأنه سرعان ما ترك علماؤها مصر إلى أنطاكية في عهد عمر بن عبد العزيز4 وبذلك لم تأخذ مصر الإسلامية الفرصة لتتفاعل مباشرة مع ما كان في هذه المدرسة من تراث، بل رأيناه يفد إليها ثانية من المشرق، كما كان الشأن بالأندلس على نحو ما مر بنا في الفصل السابق. وربما كان ذلك سبب تأخر الحركة العقلية فيها. ويظهر أن مصر من طبيعتها أن لا تُعنى عناية واسعة بالدرس الفلسفي وما يحتاجه من عمق، أو على الأقل كانت تلك طبيعتها في العصر الإسلامي، ولعله من أجل ذلك رأيناها تعنى بالدراسات الدينية واللُّغوية، وقلما تعنى بالدراسات الفلسفية، واستمر ذلك سمتها حتى القرن الثامن الهجري إذ نرى بهاء الدين السبكي يلاحظ أن أهلها صرفوا همهم إلى علوم اللغة والنحو والفقه والحديث
__________
1 فتح العرب لمصر، ص83 وما بعدها.
2 فتح العرب لمصر ص83 وما بعدها.
3 الفهرست: لابن النديم "طبع مصر" ص338، 507.
4 انظر عيون الأنباء في طبقات الأطباء: لابن أبي أصيبعة "طبع مصر" 2/ 135. وكذلك التنبيه والإشراف: للمسعودي "طبع ليدن" ص122.

الصفحة 460