كتاب الفن ومذاهبه في الشعر العربي

ونفسياتهم، فقد تعرضت صفحات منه لتصوير موجة المجون التي كانت عامة في هذه العصور، كما تعرضت صفحات أخرى لتمثيل موجة الزهد والتصوف التي سبق أن تحدثنا عنها. ولعل مما يمثلها من بعض الوجوه هذا الشعر الزاهد الذي نجده في الخريدة من مثل قول بعض الشعراء1:
جهادُ النَّفس مفترضٌ فخذْها ... بآدابِ القناعةِ والزهادَةْ.
فإن جنحتْ لذلك واستجابتْ ... وخالفتِ الهوى فهو الإرادةْ
وإن جمحتْ بها الشهواتُ فاكبحْ ... شكيمَتَهَا بمقْمَعَةِ العبادَةْ
عساك تحلُّها درج المعالي ... وترفعها إلى رُتَب السَّعادَةْ
وتعلق شاعر يسمى ابن الكيزاني بهذا الجانب يقول صاحب الخريدة عنه: "فقيه واعظ مذكِّر حسن العبارة مليح الإشارة، لكلامه رقة وطلاوة ولنظمه عذوبة وحلاوة، مصري الدار، عالم بالأصول والفروع، عالم بالمعقول والمشروع، مشهود له بألسنة القبول، مشهور بالتحقيق في علم الأصول، وكان ذا رواية ودراية بعلم الحديث، إلا أنه ابتدع مقالة ضل بها اعتقاده، وزل في مزلقها سداده، وادعى أن أفعال العبادة قديمة، والطائفة الكيزانية بمصر على هذه البدعة إلى اليوم مقيمة. واعتقد أن التنزيه في التشبيه، عصم الله من ذلك كل أديب أريب ونبيل نبيه، وله ديوان شعر يتهافت الناس على تحصيله وتعظيمه وتبجيله لما أودع فيه من المعنى الدقيق، واللفظ الرشيق، والوزن الموافق، والوعظ اللائق، والتذكير الرائع الرائق، توفي بمصر سنة ستين وخمسمائة، وهو شيخ ذو قبول، وكلام معسول، وشعر خالٍ من التصنع مغسول. والكيزانية بمصر فرقة منسوبة إليه يدَّعون قدم الأفعال، وهم أشباه الكرامية بخراسان"2. ويقول ابن خلكان: "كان زاهدًا ورعًا، وبمصر طائفة ينسبون إليه ويعتقدون مقالته، وله ديوان شعر أكثره في الزهد ولم أقف عليه، وسمعت له بيتًا واحدًا أعجبني وهو:
وإذ لاقَ بالمحبِ غرامٌ ... فكذا الوصلُ بالحبيبِ يليقُ
__________
1 الخريدة 2/ 95.
2 الخريدة 2/ 18.

الصفحة 473