كتاب الفن ومذاهبه في الشعر العربي

مشقة وتكلف من مثل ابن الأخفش إذ يبدأ إحدى قصائده على هذا النمط1.
سقى دِمَنَ السَّفحين لقطْر صيِّبُ ... وحيَّا رُبى حيٍّ رَبا فيه ربربُ2
ومالي عن شرعِ الصبابةِ مَشْرَعٌ ... ومالي إلا مذهب الحبِّ مذهبُ
وفي الحيّ رُودٌ في عذاب ورودها ... عذابٌ يذيبُ العاشقينَ ويعْذُبُ3
فإنك تحس أن الشاعر يفتعل الجناس افتعالا فهو يتصيده بكل وسيلة وحيلة، وإذن فإياك أن تظن أن شخصية المصريين في شعرهم باعدت بينهم وبين صورة الفن في الشعر عند المشارقة، فلا تزال الصورة قائمة، وغاية ما في الأمر أن خفة روح المصريين في شعرهم هي التي تحول بيننا وبين رؤية الحقيقة. واستمع إلى هذه القطعة لشلعلع وكان شاعرًا فكهًا4:
أجللت مدم إيما إجلالِ ... عن ظن إخلادٍ إلى إخلالِ
أو ريبةٍ في الودِّ تخرج قاصدًا ... من فَرْطِ إدلالٍ إلى إذلالِ
وحساب تسويفٍ ومطل عن غنى ... يفضي بإمهالٍ إلى إهمالِ
آليتُ أبرحُ سائلا لك نائلا ... يُوسَى ببلِّ نداه بالي البالي
حتى يراجعَ فيَّ عاطفةَ العُلا ... كرمٌ يزينُ الفضلَ بالإفضالِ
وأرى بعودِ نداك عودي مورقًا ... ومعطَّل التأميل حالي حالي
واستمر شلعلع على هذا النمط يصعِّب على نفسه المرور إلى قافيته، فهو يرصد قبلها كلمة ثم يلتزم الجناس بين هذه الكلمة وبين القافية، وكأنه يتأثر في ذلك تصنع أبي العلاء الذي مر بنا في الكتاب الثاني. وكما نجد هذه الصورة المتكلفة في الجناس نجد مثيلا لها في الطباق وفي التصوير، وانظر إلى قول ابن الأخفش في عذار غلام5:
__________
1 الخريدة 1/ 283.
2 الدمن: آثار الديار. الصيب: السحاب الممطر. الربى: جمع ربوة، ما ارتفع من الأرض، ربا: نمى. الربرب: القطيع من بقر الوحش.
3 رود: نساء جميلات جمع رادة.
4 الخريدة 2/ 130.
5 الخريدة 1/ 240.

الصفحة 480