كتاب الفن ومذاهبه في الشعر العربي

قَصَرَ نفسه عليه، غير أننا نجد ابن وكيع لا يعيش بشعوره وأحاسيسه في الطبيعة، فهو يعجب بألوانها وأشكالها، ويصورها من خلال ذلك، أما الشريف العقيلي فقد فتن بها -على ما يظهر- فتنة شديدة جعلته يعنى بمتنزهاته على نحو ما يروي ابن سعيد، كما جعلته في شعره يتعمق الطبيعة ويصل نفسه بنفسها، ويعيش مع كل حركة وكل همسة فيها، وأتاح له ثراؤه ورقته وحبه لها أن يقصر نفسه عليها، فذهب يملؤها بمختلف الوجوه والشخوص، وكأني به كان من ذوي العيون الباصرة أو العيون الشاعرة التي تستطيع أن ترد صور الطبيعة إلى كثير من الرؤى والأحلام الغريبة، وساعده على ذلك أنه كان يتصل بالطبيعة روحًا وحسًّا، وزاد في اتصاله بها أنه كان صبًّا بالخمر، فذهب يتغنى بها وبالطبيعة من حوله، وبدت له الأزهار والثمار والأشجار في صورة خيالية مثيرة كأن يقول1:
أمهاتُ الثِّمارِ بين الرَّوابي ... تائهاتٌ بلبسِ خضرِ الثيابِ
أو يقول2:
السُّحب تُرْضعُ من بنات الأرضِ ما ... جعلَ الربيعُ لها الغصونَ مُهُودا
وواضح أنه يعمد إلى التشخيص، وملء الطبيعة بالشعور والأحاسيس، وكان يضيف إلى هذا التشخيص مقدرة واسعة على التجسيم، ومقدرة أخرى لعلها أوسع منها، ونعني قدرته على حشد المنظر الواسع في لمحة، كقوله3:
قد بُيِّضتْ قبةُ السَّماءِ ... وزُرِّقت قاعةُ الفضاءِ
وقوله4:
الغيمُ ممدودُ السُّرادقْ ... والزهرُ مفروشُ النَّمارِقْ
ومراودُ الأمطارِ قدْ ... كُحلت بها حدقُ الحدائقْ
__________
1 المغرب ص211.
2 المغرب ص225.
3 المغرب ص207.
4 المغرب ص230.

الصفحة 484