كتاب الفن ومذاهبه في الشعر العربي

قمْ فانْحرِ الرَّاح يوم النحرِ بالماءِ ... ولا تضحِّ ضُحىً إلا بصهباءِ1
وعُجْ على مكَّةَ الروحاء مبتكرًا ... فطفْ بها حولَ ركنِ العودِ والناءِ2
وقوله3:
وزامرٍ يكذبُ فيه عائبُهْ ... تكثُرُ في صنعتِهِ عجائبُهْ
يحجبُ صبرَ المرءِ عنه حاجبُهْ ... فيشكُرُ الشاربَ منه شاربُهْ
كأنما ناياتُهُ ذوائِبُهْ
فأنت ترى أنه ورَّى أولا في العيون ثم ورَّى ثانيًا في الضحى، ثم ورَّى ثالثًا في حاجب وشارب وذوائب، وهناك توريات له أخرى في الخريدة يعف القلم عن ذكرها لما فيها من مجون وفحش، وإذن فليست التورية شيئًا حادثًا أحدثه القاضي الفاضل كما ظن الحموي والصفدي، بل هي قديمة منذ الشريف العقيلي، وأيضًا فإن تصنع الشعراء لألوان البديع قديمٌ منذ هذا الشاعر، فشعره فيه طباق ومشاكلة وجناس كثير، وفيه أيضًا تكلف الصور والتصنع لاصطلاحات العلوم. وكان يستخدم في شعره عامة مراعاة النظير استخدامًا لم نره حتى عند شعراء الخريدة المتأخرين، وكان ذلك يوقعه كثيرًا في صور متكلفة كقوله4:
ولما أقلعت سفنُ المطايا ... بريحِ الوجْدِ في لُجَجِ السرابِ
جرى نظري وراءهم إلى أنْ ... تكسَّر بين أمواجِ الهضابِ
فقد شبَّه الهوادج بالسفن ثم دفعته مراعاة النظير أن يأتي بالريح واللجج والأمواج. على أنه ينبغي أن نلاحظ أن عنده شعرًا كثيرًا يخلو من التصنيع والتصنع جملة، وهذا إلى فكاهاته ودعاباته، واستمع إلى هذه الدعابة في بعض من يهواه5:
__________
1 تضحي: تذبح الأضحية. الصهباء: الخمر.
2 الناء هنا: الناي، قلب الياء همزة؛ لضرورة القافية.
3 الخريدة 2/ 63.
4 المغرب ص211.
5 المغرب ص429.

الصفحة 486