كتاب الفن ومذاهبه في الشعر العربي

مظاهر الغناء والموسيقى واضحة، لعل القافية أهم تلك المظاهر؛ فإنها واضحة الصلة بضربات المغنين وإيقاعات الراقصين. إنها بقية العزف القديم وإنها لتعيد للأذن تصفيق الأيدي وقرع الطبول ونقر الدفوف كما تعيد ذلك شاراتٌ أخرى للغناء نجدها في الشعر القديم منها هذا التصريع الذي نجده في مطالع القصائد، كقول امرئ القيس في مفتتح مطولته:
قفا نَبْكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ ... بِسِقْطِ اللِّوَى بين الدَّخول فَحَوْمَلِ1
وعاد إلى التصريع مرة أخرى فقال:
أفاطمُ مهلًا بعض هذا التدللِ ... وإن كنتِ قد أزمعت صَرْمي فأجْمِلِي2
ثم صرع ثالثة فقال:
ألا أيها الليلُ الطويلُ ألا انجلِ ... بصُبْح وما الإصباحُ منكَ بأَمْثَلِ
وكأني بهذا التصريع كان يأتي به الشاعر حين ينتهي من غناء قطعة من قصيدته أو إنشادها، وينتقل إلى أخرى، وربما كان ذلك أحد الأسباب التي جعلتهم يفزعون إليه حين ينتقلون من موضوع إلى موضوع في النموذج الفني. واقرأ هذه القطعة من معلقة لبيد:
عَفَتِ الدِّيارُ محلُّها فمُقامُها ... بمنىً تأبدَ غَولُهَا فَرِجَامُهَا3
فمدافعُ الرَّيَّان عُرِّيَ رسْمُهَا ... خَلقًا كما ضمن الوُحِيَّ سِلامها4
وجَلا السيُولُ عن الطلول كأنها ... زُبُرٌ تُجِدُّ مُتُونَها أقلامُها5
دِمَنٌ تجرَّمَ بعد عهد أنيسها ... حِجَجٌ خَلَوْنَ حلالها وحرامُها6
__________
1 السقط: متقطع الرمل. اللوى: حيث يلتوى يدق. الدخول وحومل: موضعان.
2 الصرم: القطيعة.
3 عفت: امحت ودرست، المحل: حيث يحل القوم من الديار، المقام: المجلس حيث يجتمع أبناء الحي. ومنى والغول والرجام: مواضع بحمى ضرية، وتأبد: توحش وأقفر.
4 مدافع الريان: المدافع: مجاري المياه، الريان: وادي بالحمى المذكور. الرسم: آثار الديار، خلقًا: بلى وعفاء. الوحي: الكتابة، والسلام: حجارة بيض رقيقة.
5 وجلا السيول عن الطلول: يريد أنها كشفت التراب عن الأطلال، والزبر: الكتب، تجد: تجدد.
6 الدمن: آثار الديار، تجرم: مضى، حجج: سنون، خلون: مضين، وحلالها وحرامها، يريد أشهرها الحرم وغير الحرم.

الصفحة 49