كتاب الفن ومذاهبه في الشعر العربي

يعيشون محجوبين عن العالم يخاطبون الناس من وراء حجاب، وقد أقبلوا على الغناء كما كان يقبل عليه ملوك الفرس1، وكما كان يقبل عليه يزيد وابنه الوليد من خلفاء بني أمية. والمهدي هو أول خليفة عباسي يحتفل بهذا الجانب؛ إذ كان يحب القيان وسماع الغناء2، ثم يأتي هارون الرشيد فيبالغ في ذلك ويجعل المغنين مراتب وطبقات على نحو ما وضعهم أردشير بن بابك3.
وليس معنى ذلك أن العراق لم يكن به غناء في العصر الإسلامي؛ فقد كان به حُنَين الحيريّ4، ولكنه لم يخلف هناك مدرسة كالتي نجدها في مكة أو المدينة إنما يحدث الغناء في العراق حدوثًا أو يكاد في العصر العباسي على نحو ما نرى في كتاب الأغاني؛ إذ تتصل سلسلة المغنين ورُقُمهم الموسيقية بالحجاز مباشرة، وقد كثر المغنون والمغنيات في هذا العصر كثرة مفرطة، نجد من أشهرهم في زمن الرشيد إبراهيم الموصلي، وإسماعيل بن جامع، وفليح بن أبي العوراء، وهؤلاء الثلاثة هم الذين أمرهم الرشيد أن يختاروا له الأصوات المائة التي أدار أبو الفرج كتابه الأغاني عليها، وقد طلب إليهم أن يختاروا من هذه المائة عشرة ثم من تلك العشرة ثلاثة على نحو ما يفصله أبو الفرج في أول كتابه، واشتهر بجانب هؤلاء جماعة منهم زَلْزل، وكان له شهرة في الضرب على الوتر ولم يكن يغني؛ وإنما كان يضرب على ابن جامع وإبراهيم الموصلي أيضًا، ومنهم عَلَوَّية، وكان يقول فيه الواثق غناء علوية مثل نقر الطست يبقى ساعة في السمع بعد سكوته5، ومنهم إسحاق الموصلي وهو الذي هذب صناعة الغناء6. وكان يستطيع الضرب على العود المشوّش الأوتار فيوهم السامع أنه يضرب على عود صحيح7، وعَرف في مجلس المأمون خطأ في وتر بين ثمانين وترًا وعشرون جارية يغنين8. واشتهر
__________
1 مروج الذهب 8/ 95.
2 البيان والتبيين 3/ 370.
3 التاج للجاحظ 37.
4 أغاني "دار الكتب" 2/ 341.
5 أغاني "دار الكتب" 11/ 337.
6 أغاني "دار الكتب" 5/ 269.
7 نفس المصدر 5/ 284.
8 نفس المصدر 5/ 353.

الصفحة 60