كتاب الفن ومذاهبه في الشعر العربي

العباس بن الأحنف:
وكان يقابل هذا النوع من الشعر الغنائي المادي الصريح نوع آخر عَفٌّ مَثَّله العباس بن الأحنف، وهو عربي الأصل من بني حنيفة، ويشبه في العصر العباسي عمر بن أبي ربيعة في العصر الإسلامي؛ إذ خصص نفسه بغناء حبه منصرفًا عن قصائد المديح وما إليه، يقول عنه صاحب الأغاني: "كان شاعرًا غَزِلًا ظريفًا، لم يكن يتجاوز الغزل إلى مديح ولا هجاء، ولا يتصرف في شيء من هذه المعاني، وكان قصده الغزل وشغله النسيب1". ويقول الجاحظ: "لولا أن العباس بن الأحنف أحذق الناس وأشعرهم وأوسعهم كلامًا وخاطرًا ما قدر أن يكثر شعره في مذهب واحد لا يجاوزه؛ لأنه لا يهجو ولا يتكسب ولا يتصرف، ولا نعلم شاعرًا لزم فنًّا واحدًا لزومه فأحسن فيه وأكثر2".
وكأني بالجاحظ نسي عمر بن أبي ربيعة وأضرابه من شعراء العصر الإسلامي!. وكان العباس شخصية ظريفة حقًّا في العصر العباسي إذ قصر نفسه على الغزل؛ ولكن دون تبذل أو تصريح بعهر وفحش، وترجم له صاحب الأغاني ترجمة واسعة روى له فيها كثيرًا من مقطوعاته الجيدة كقوله3:
لا جزى الله دمع عيني خيرًا ... وجزى الله كل خيرٍ لساني
نمَّ دمعي فليس يكتم شيئًا ... ورأيت اللسان ذا كتمان
كنتُ مثلَ الكتاب أخفاه طَيٌّ ... فاستدلوا عليه بالعنوانِ
وقوله4:
قالت ظلوم سمية الظلم ... ما لي رأيتك ناحل الجسم
يا من رمى قلبي فأقصده ... أنت العليم بموضع السَّهم
وقوله5:
ألا تعجبون كما أعجب ... حبيب يسيئ ولا يعتب
وأبغي رضاه على سخطه ... فيأبى عليَّ ويستصعب
__________
1 أغاني "دار الكتب" 8/ 352.
2 أغاني "دار الكتب" 8/ 354.
3 المصدر نفسه 8/ 354.
4 المصدر نفسه 8/ 356.
5 المصدر نفسه 8/ 360.

الصفحة 68