كتاب الفن ومذاهبه في الشعر العربي

كَأَنَّ الصَبا توفي نُذوراً إِذا اِنبَرَت ... تُراوِحُهُ أَذيالَها وَتُباكِرُه1
وَرُبَّ زَمانٍ ناعِمٍ ثَمَّ عَهدُهُ ... تَرِقُّ حَواشيهِ وَيونَقُ خَصرُه
تَغَيَّرَ حُسنُ الجَعفَرِيِّ وَأُنسُهُ ... وَقُوِّضَ بادي الجَعفَرِيِّ وَحاضِرُه3
تَحَمَّلَ عَنهُ ساكِنوهُ فُجاءَةً ... فَعادَت سَواءً ضورُهُ وَمَقابِرُه4
فإنك تحس بالقوة والعنف في هذا الرثاء؛ إذ اختار البحتري ألفاظه من ذوات الحروف الضخمة أو من هذا النوع الذي كانوا يسمونه بالجزل؛ لأنه غاضب ثائر، وكأنه ينحت الألفاظ نحتًا ليعبر عن هذا الغضب وتلك الثورة التي أعلنها فيما بعد من القصيدة؛ إذ دعا إلى الانتقاض على من قتلوا المتوكل، وكان الخليفة الجديد هو الذي دبر هذه المؤامرة، وليس من شك في أن البحتري كتب هذه القطعة بمفتاح موسيقى محكم، فقد عبر بهذه الألفاظ الضخمة عن عاطفة الحزن الثائرة، حتى لكأن الألفاظ لها قعقعة السلاح ودوي الموقع التعسة الحزينة؛ ووفق في ربط القوافي بالهاء الساكنة، فجعل الصوت بعد انطلاقه على الكلمات والمقاطع ينخفض فجأة عند القافية، وكأنه لم تعد فيه بقية، ثم يعلو وينطلق في الاندفاع على البيت الثاني، وما يلبث أن ينخفض فجأة كرة أخرى، وهكذا لا يزال الصوت بين ارتفاع وانخفاض كأن الشاعر نائح، فهو يرتفع بالصوت، وما يلبث أن ينخفض به لشدة التأثر والتعب. وبذلك مثل البحتري زفرات الحزن تمثيلًا جيدًا، وندب المتوكل الخليفة المقتول على عرشه ندبًا خالدًا. واقرأ هذه الأبيات التي يقولها في وصف بركة.
تنصبُّ فيها وفود الماء معجلة ... كالخيل خارجة من حبل مُجريها
كأنما الفضَّة البيضاء سائلةً ... من السبائك تجري في مجاريها
إذا علتها الصبا أبدت لها حبكًا ... مثل الجواشن مصقولًا حواشيها5
__________
1 تراوحه: تنتابه في الرواح "عشيًّا". تباكره: تهب عليه بكرة "صباحًا".
2 ناعم: ناعم أهله. حواشيه: جوانبه، ورقة حواشيه كناية عن سعادة أوقاته، والشجر الناضر: الجميل والمراد أن عهده جميل.
3 الجعفري: قصر المتوكل. قوض: تهدم. بادية: ظاهرة. حاضرة: داخلة.
4 سواء: متساوية.
5 الصبا: ريح خفيفة كالنسيم تهب من جهة الشرق. الحبك: الطرق في الرمل، الجواشن: الدروع.

الصفحة 82