كتاب الفن ومذاهبه في الشعر العربي

فحاجب الشمس أحيانًا يضاحكها ... ورَيِّق الغيث أحيانًا يباكيه1
إذا النجوم تراءت في جوانبها ... ليلًا حَسِبْتَ سماء رُكِّبَتْ فيها
فإنك تشعر أنه أودع هذه القطعة كل ما يمكن من حلية الصوت وزينته فالألفاظ تعبر بأنفسها عن معانيها، إذا عرف كيف يختارها وكيف يلائم بينها؛ حتى جعلنا نحسُّ هذه الحال منشدة اقتضائها لقوافيها. وهذا الجانب من جوانب إحكام القافية وقف عنده النقاد العباسيون كثيرًا، وألحوا على الشعراء أن تصير القوافي إلى قرارها بحيث تتصل بشكلها، وتأخذ حظها من الأماكن المقسومة لها2، حتى ليقول شبيب بن شيبة إن حظَّ جودة القافية وإن كانت كلمة واحدة أرفع من حظ سائر البيت3.
وقد أقبل الشعراء يرصدون قوافيهم، ويرشحون لها على صور وهيئات مختلفة، ولعل في هذا ما يلفتنا إلى أن الترشيح والإرصاد وغيرهما من ألوان البديع الصوتية التي ترتبط بقوافي الشعر إنما نشأت تابعة لهذه العناية التي كَلِفَ بها الشعراء، إذا كانوا يلائمون ملاءمة شديدة بين الألفاظ والغناء، ولا يزالون بشعرهم حتى يحيلوه أنغامًا وأرقامًا موسيقية.
وأيًّا كان البحتري كان يعرف كيف يلائم بين ألفاظه، وكيف يرشح لقوافيه، وكيف يهيئ لها مكانها، ويَصُفُّ الآذن للقائها، إذا كان شاعرًا ممتازًا في فن الصوت وإن استمر يستمده من القيثارة العتيقة، فيثارة الرعاة القدماء التي حكمها أصحاب الشعر الغنائي -كما رأينا- في كثير من صورها وجوانبها؛ ولكنه عرف كيف يستخرج من هذه القيثارة المحطمة أصواتًا جديدة معجبة، شأن الموسيقيين الممتازين. وكان يعرف في نفسه هذه الخاصة وكان تيَّاهًا بها مُدِلًا، حتى قالوا إنه كان إذا أنشد يتشادق ويتزاور في حركته مرة جانبًا ومرة القهقرى، ويهز رأسه مرة ومنكبه أخرى، ويشير بكمه، ويقف عند كل بيت، ويقول: أحسنت والله، ثم يقبل على المستمعين فيقول: ما لكم لا تقولون
__________
1 حاجب الشمس: قرنها عند طلوعها.
ريق الغيث: أوله.
2 البيان والتبيين 1/ 138.
3 البيان والتبيين 1/ 112.

الصفحة 83