كتاب الفن ومذاهبه في الشعر العربي

فقد أقام الكلمات في الشطرين على صفين متقابلين وكأن كل كلمة في الشطر الأول تطلب قرينها في الشطر الثاني، وحاول ذلك ثانية في البيت الأخير:
حاشَ لله أنت أفتن ألحا ... ظًا وأحلى شكلًا وأحسن قَدَّا
ولكنه لم يبلغ من ذلك ما بلغه في البيت السابق، وهو وجه من وجوه التوافق الصوتي ويسميه أصحاب البديع باسم المماثلة. ومن يقرأ في شعر البحتري يجد أمثلة كثيرة للجوانب الموسيقية الأخرى التي ضبطها أصحاب البديع، من مثل التصدير والترصيع وغير ذلك مما يتصل بالصوت وتنظيمه تنظيمًا موسيقيًّا خاصًّا.
ونحن لا نتصفح ديوان البحتري حتى نحس إحساسًا عميقًا بأن موسيقى الشعر العربي أصيبت بترف صوتي شديد؛ إذ استطاعت أن تنهض بقم فنية لم يكن يحلم بها الشعراء القدماء، شعراء البادية، والحق أن البحتري استطاع أن يستخرج من القيثارة القديمة للشعر كل ما يمكن من مهارة فنية للصوت والموسيقى، واقرأ له قصيدته السينية التي يصف فيها إيوان كسرى؛ فإنك ستُرَاعُ حين تراه لا يكتفي بالتوافق الصوتي بين بعض الكلمات أو بعض الحروف في بعض الأبيات؛ بل هو يعمم هذا التوافق في القصيدة كلها، واستمع إليه يستهلها بقوله:
صُنتُ نَفسي عَمّا يُدَنِّسُ نَفسي ... وَتَرَفَّعتُ عَن جَدا كُلِّ جِبسِ1
وتماسكتُ حين زعزعني الدَّهـ ... ـرُ التماسًا منه لتعسي ونَكْسِي2
بُلَغٌ من صبابة العيش عندي ... طَفَّفَتَها الأيامُ تطفيفَ بخسِ3
وبعيدًا ما بَيْنَ واردِ رَفْهٍ ... عَلَلٍ شُرْبُهُ وواردِ خِمْسِ4
__________
1 الجدا: العطاء. الجبس: اللئيم.
2 النكس: الانقلاب على الرأس.
3 البلغ: جمع بلغة وهي ما يكفي من العيش. والصبابة: البقية، طففتها: نقصتها. البخس: الغبن.
4 الرفه من العيش: اللين. والعلل: الشرب تباعًا. الخمس: أن ترد الإبل الماء بعد ثلاثة أيام.

الصفحة 86