كتاب الفن ومذاهبه في الشعر العربي

يخرجهما متجاذبتين ولكن لا بواسطة السينات ولا بواسطة الكسرات وإنما بواسطة التجانس الصوتي فيها؛ فقد سبقت الأولى بغير والثانية بحيث، وهما متوافقتان في عدد الحروف والحركات والسكنات، ونفس الكلمتين مصبح وأمسى بينهما اتفاق في الموسيقى إذ هما يبدآن بضمة ثم سكون فكسر. ومن هذا النمط قوله:
وهُمُ خافضون في ظلّ عالٍ ... مُشْرِفٍ يُحْسِرُ العيون ويُخْسِي
فإنك تراه هنا يلائم ملاءمة أوضح من حيث التوافق الصوتي إذا عبَّر قبل يخسي بكلمة يحسر، وكأنه أراد أن يتقدمها برائد بديع من جنسها. والحق أن البحتري فكر طويلًا في الحركات والسكنات والحروف والكلمات في أثناء صناعته لتلك القصيدة. ولعل ذلك هو الذي جعله يصل إلى ملاءمة أخرى بين القافية وكلمات البيت؛ ولكن لا من حيث السينات أو الكسرات أو التقطيعات الصوتية؛ وإنما من حيث عدد الحروف، إذ يلاحظ من يتتبعه في هذه القصيدة أنه عني بالكلمات الثلاثية في صناعتها عناية وفرت كثيرًا من القيم الصوتية، كأنه يقول:
وبعيدٌ من بين واردِ رَفْهٍ ... علل شبه ووارد خمس
فإنك تحس في هذا البيت جمال الكسرات، وتحس شيئًا آخر وهو نوع من التوافق الصوتي بين آخر الشطر الأول وبين القافية، إذا اتحد معها في عدد الحروف والحركات والسكنات، وهو حقًّا لم يتحد في الحرف الأخير معها، فإن ذلك يخصصه الشعراء بمطالع قصائدهم إذ يصرِّعونها على نحو ما نرى في القصيدة نفسها؛ فالشطر الأول كأنه مسجوع مع الشطر الثاني، وما في هذا البيت الذي نحن بصدده ليس تصريعًا، ومع ذلك فهو ضرب دقيق من التوافق الصوتي، عممه البحتري في كثير من أبيات القصيدة على نحو ما نرى في الأبيات الثالث والسادس والثالث عشر من القطعة السابقة. ومن ينكر أن كلمة علل تلاءمت مع أخواتها في البيت بواسطة هذه الثلاثية المشتركة بينها وبين القافية؟ أرأيت إلى

الصفحة 89