كتاب الفن ومذاهبه في النثر العربي

ويدعو بعض آخر إلى عدم تدوينه1، ولعله كان يخشى إن دون أن يختلط بالقرآن، أو أن يشغل المسلمين عنه، وفي الوقت نفسه لم يجد مانعا في بعض الأحيان من أن تكتب عنه بعض الأحاديث التي تتعلق بالأحكام، وإذا انتقلنا إلى عصر الصحابة، وجدناهم يكرهون غالبا تدوين الحديث2. بينما يعنون بروايته، وأشار نفر منهم على عمر أن يدونه. فلبث شهرا يستخبر الله في ذلك، ثم أصبح يوما وقد عزم الله له، فقال: إني كنت قد ذكرت لكم من كتاب السنن ما قد علمتم، ثم تذكرت، فإذا أناس من أهل الكتاب قلبكم قد كتبوا مع كتاب الله كتبا، فأكبوا عليها وتركوا كتاب الله، وإني والله لا ألبس كتاب الله بشيء أبدًا3، ومضى الصحابة لا يدونون الحديث تدوينا عاما مكتفين بروايته، وظلت هذه هي الفكرة الشائعة في عصر التابعين4، ولكن بمضي الزمن تزداد الرغبة في تدوينه، حتى إذا كان عهد عمر بن عبد العزيز على رأس المائة الأولى للهجرة رأيناه يأمر بتدوينه5، ولا مشاحة في أن أول من دونه تدوينا عاما هو ابن شهاب الزهري المتوفى سنة 123هـ، ومنذ هذا التاريخ أخذ تدوين الحديث يتسع، وأخذ يصنف ويبوب على الأحكام الفقهية، حتى يسهل الرجوع إليه في أمور الدين، على نحو ما نجد في كتاب "الموطأ" للإمام مالك إمام أهل المدينة المتوفى سنة 179 للهجرة، ولا نصل إلى أواسط القرن الثالث، حتى يضع فيه ابن حنبل مسنده الكبير، وتتلوه كتب الصحيح الستة، للبخاري ومسلم وأبي داود، والترمذي وابن ماجه والنسائي.
ووضع حول الحديث منذ العصر الأول في روايته سياج محكم، حتى لا يدخل فيه الوضع والانتحال، وحتى تظل الثقة قائمة به، وخاصة؛ لأنه
__________
1 انظر تقييد العلم للخطيب البغدادي "طبعة يوسف العش" ص29، وما بعدها وص65 وما بعدها.
2 نفس المصدر ص36، وما بعدها.
3 نفس المصدر ص49، وما بعدها.
4 نفس المصدر ص45، وما بعدها وص99، وما بعدها.
5 الزرقاني على موطأ مالك "طبع المطبعة الخيرية" 1/ 10.

الصفحة 49