كتاب الفن ومذاهبه في النثر العربي

من البلاغة ومن البيان والفصاحة، ومن خطبة له1:
"إلا إن أشقى الناس في الدنيا والآخرة الملوك: ألا إن الفقراء هم المرحومون، ألا وإنكم اليوم على خلافة النبوة، ومفرق المحجة2، وإنكم سترون بعدي ملكا عضوضا3، وملكا عنودا4، وأمة شعاعا5، ودما مفاحا6، فإن كانت للباطل نزوة، ولأهل الحق جولة، يعفو لها الأثر، وتحيا بها الفتن، وتموت لها السنن، فالزموا المساجد واستثيروا القرآن واعتصموا بالطاعة، ولا تفرقوا الجماعة".
وكان كثيرا، ما يخطب في الجيوش الخارجة إلى الغزو، فيوصيها ويوصي قادتها باتباع هدى الإسلام، وبالجهاد في سبيله وله وصية مشهورة يوصي فيها عمر حين استخلفه عند موته بتقوى الله، واتباع الحق حتى لا يلقي بيده إلى التهلكة7، وهو في كل ما أثر عنه يحسن اختيار لفظه، في أسلوب مرسل يشف عن دقة حسه، ومعرفته بمواضع الكلم، ولعل مما يدل على ذلك أنه مر برجل معه ثوب، فقال له: أتبيع الثوب؟ فقال: لا، عافاك الله، فقال أبو بكر: لقد علمتم لو كنتم تعلمون، قل: لا، وعافاك الله"8.
وكان عمر بن الخطاب مثل صاحبه في الأفق الأعلى من روعة البيان والخطابة، وله خطب تدور في كتب الأدب والتاريخ نكتفي منها بهذه القطعة9: "اقدعوا10 هذه النفوس عن شهواتها، فإنها طلعة11، وإنكم إلا تقدعوها تنزع بكم إلى شر غاية، وحادثوها بالذكر فإنها سريعة الدثور12، إن هذا
__________
1 البيان والتبيين 3/ 43، وانظر عيون الأخبار 2/ 233، والقعد الفريد 4/ 59، وما بعدها.
2 المحجة: الطريق.
3 عضوض: شديد فيه عسف.
4 عنود: طاغ.
5 شعاع: متفرقة.
6 مفاح: سائل مهراق.
7 انظر الوصية في البيان والتبيين2/ 45، والعقد الفريد 3/ 148، وراجع وصاياه الحربية لقواد جيوشه في عيون الأخبار لابن قتيبة 1/ 108، وما بعدها.
8 البيان والتبيين 1/ 261.
9 البيان والتبيين 3/ 138، وقارن 1/ 298.
10 اقدعوا: انهوا وكفوا.
11 طلعة: تتطلع إلى كل شيء.
12 الدثور: الدروس.

الصفحة 59