كتاب الفن ومذاهبه في النثر العربي

من ضرائها ظهرا، ولم تطله1 غيثة رخاء إلا هطلت عليه مزنة بلاء، وحرى إذا أصبحت له منتصرة، أن تمسي له خاذلة متنكرة، وإن جانب منها اعذوذب واحلولى، أمر عليه منها جانب وأوبى2، وإن آتت امرأ من غضارتها، ورفاهيتها نعما، أرهقته من نوائبها نقما، ولم يمس امرؤ منها في جناح أمن إلا أصبح منها على قوادم3 خوف.. لا خير في شيء من زادها إلا التقوى".
والقطعة -مثلها مثل الموعظة جميعها- تمتاز بأنها تتصل بنفس صاحبها، وكأنه سكب فيها روحه، فهو يعبر عن تقوى صادقة تسيل من قبله ونفسه، وهو بعد ذلك دقيق في اختيار لفظه، يعنى برصفه عناية أوسع من عناية أبي حمزة الشاري، إذ تنقلب عنايته في أكثر الموعظة إلى ضرب من السجع الرشيق، وهذه العناية بالسجع إلى حد بعيد تضافرت معها عناية بالطباق والمقابلة، وعناية أخرى بالصور والرسوم المتحركة، وهو يشبه الحجاج في الجانب الأخير، غير أنه لا يكتفي به، بل يضيف إليه فنونا من المقابلات وضروبا من الإيقاعات الصوتية، حتى يبلغ ما يريد من التأثير في نفوس سامعيه.
ولم يكن الشيعة أقل من الخوارج، وولاة بني أمية احتفالا بخطابتهم، ويؤثر عن علي بن الحسين أنه قال: "لو كان الناس يعرفون جملة الحال في فضل الاستبانة، وجملة الحال في صواب التبيين لأعربوا عن كل ما تخلج في صدورهم ولوجدوا من برد اليقين ما يغنيهم عن المنازعة إلى كل حال سوى حالهم، ولكنهم من بين مغمور بالجهل، ومفتون بالعجب، ومعدول بالهوى عن باب التثبت، ومصروف بسوء العادة عن فضل التعلم"4، وكان زيد ابنه جدلا لسنا يجتذب الناس بحلاوة لسانة، وسهولة منطقة وعذوبته5، مع قوة الحجج
__________
1 تطل: من الطل وهو المطر الخفيف.
2 أوبى: من الوباء.
3 القوادم: الريش في مقدمة الجناح.
4 البيان والتبيين 1/ 84، وزهر الآداب 1/ 59.
5 البيان والتبيين 1/ 58، وانظر زهر الآداب 1/ 72.

الصفحة 87