كتاب الفن ومذاهبه في النثر العربي

وشفيت غليل صدور المؤمنين، وأدركت بثأر النبيين، لم يكبر علي زوال الدنيا، ولم أحفل بالموت إذا أتى".
وكان المختار يكثر من هذه الأسجاع، ويتشبه فيها بصنيع الكهان، وهذا هو لحثه الذي كان يردده في خطبه التي رواها له المؤرخون، وكان يوفر من غير شك في أثناء ذلك لكلامه ضروبا مختلفة من التكلف، حتى يحقق ما يريد من الإيهام البعيد.
وإذا تركنا خطباء الأحزاب السياسية إلى خطباء المحافل، وجدناهم يحاولون جاهدين التأنق في خطابتهم1، وهذا طبيعي؛ لأن خطابتهم محدودة، إذ لا تتجاوز في كثير منها كلمات معدودة، وكانوا يلقونها بين أيدي الخلفاء والولاة، فكانوا يطلبون فيها أن تروعهم، وتستميل إليهم قلوبهم، ولعلهم من أجل ذلك كانوا يلتزمون فيها السجع، حتى يستموا لها كل حلية صوتية ممكنة، وأشهر خطباء المحافل في هذا العصر، كما أسلفنا، الأحنف بن قيس زعيم تميم البصرة، فقد كان يفد لقومه على معاوية، فيلقي إليه بحاجتهم في عبارات مسجعة منمقة على شاكلة قوله2:
"يا أمير المؤمنين! أهل البصرة عدد يسير، وعظم كسير، مع تتابع من المحول، واتصال من الذحول3، فالمكثر فيها قد أطرق4، والمقل قد أملق5، وبلغ منه المخنق، فإن رأى أمير المؤمنين أن ينعش الفقير، ويجبر الكسير، ويسهل العسير، ويأمر بالعطاء، ليكشف البلاء، ويزيل اللأواء6، وإن السيد من يعم ولا يخص ويدعو الجفلى7، ولا يدعو النقرى8، وإن أحسن إليه شكر، وإن أسيء إليه غفر، ثم يكون من وراء
__________
1 البيان والتبيين 1/ 204، وما بعدها.
2 زهر الآداب للحصري "طبعة المطبعة الرحمانية" 1/ 46.
3 الذحول: الثارات، والمحلول: الجدب.
4 أطرق: ضعف وهزل.
5 أملق: افتقر.
6 اللأواء: الشدة.
7 الدعوة الجفلى: الدعوة العامة.
8 النقرى: الدعوة الخاصة، دعوة الأفراد.

الصفحة 89