كتاب منادمة الأطلال ومسامرة الخيال

شغل قلب وَخَوف وَكَانَ يصادق مُلُوك الْأَطْرَاف ويباطنهم ويلاطفهم وَكَانَ بتدبيره يستولي على عَمه الْعَادِل وعَلى مُلُوك الْأَطْرَاف ويستعبد الْفَرِيقَيْنِ ويشغل بَعضهم بِبَعْض وَكَانَ كَرِيمًا معطيا يُرْضِي الْمُلُوك وَالشعرَاء
وَمن نوادره أَن الشَّاعِر الْحلَبِي قَالَ لَهُ يَوْمًا فِي المنادمة وَهُوَ يعبث بِهِ وَزَاد عَلَيْهِ أأنظم يهدده بالهجو فَقَالَ لَهُ السُّلْطَان انثر وَأَشَارَ إِلَى السَّيْف انْتهى أَقَامَ فِي الْملك ثَلَاثِينَ سنة وَقَالَ عز الدّين عَليّ بن الْأَثِير الْجَزرِي فِي الْكَامِل فِي حوادث سنة ثَلَاث عشرَة وسِتمِائَة بهَا توفّي الْملك الظَّاهِر غَازِي بن صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب وَهُوَ صَاحب مَدِينَة حلب ومنبج وَغَيرهمَا من بِلَاد الشَّام وَكَانَ مَرضه إسهالا وَكَانَ شَدِيد السِّيرَة ضابطا لأموره كلهَا كثير الْجمع للأموال من غير جهاتها الْمُعْتَادَة عَظِيم الْعقُوبَة على الذَّنب لَا يرى الصفح وَله مقصد يَقْصِدهُ يَقْصِدهُ كثير من أهل البيوتات من أَطْرَاف الْبِلَاد وَالشعرَاء وَأهل الدّين وَغَيرهم فيكرمهم وَيجْرِي عَلَيْهِم الْجَارِي الْحسن وَلما اشتدت علته عهد بِالْملكِ بعده لولد لَهُ صَغِير اسْمه مُحَمَّد ولقبه الْملك الْعَزِيز غياث الدّين عمره ثَلَاث سِنِين وَعدل عَن ولد لَهُ كَبِير لَان الصَّغِير كَانَت أمه ابْنة عَمه الْملك الْعَادِل أبي بكر بن أَيُّوب صَاحب مصر ودمشق وَغَيرهمَا من الْبِلَاد فعهد بِالْملكِ لَهُ ليبقي عَمه الْبِلَاد عَلَيْهِ وَلَا ينازعه فِيهَا واخذ لَهُ الْعَهْد بالتولية من الْعَادِل وَلما توفّي الظَّاهِر كَانَ قد جعل أتابك وَلَده ومربيه خَادِمًا روميا اسْمه طغربل ولقبه شهَاب الدّين وَهُوَ من خِيَار عباد الله كثير الصَّدَقَة وَالْمَعْرُوف فَأحْسن السِّيرَة بِالنَّاسِ وَعدل فيهم وأزال كثيرا من السّنَن الْجَارِيَة وَأعَاد أملاكا كَانَت قد أخذت من أَرْبَابهَا وَقَامَ بتربية الطِّفْل احسن قيام وَحفظ بِلَاده واستقامت الْأُمُور بِحسن سيرته وعدله وَملك مَا كَانَ يتَعَذَّر على الظَّاهِر ملكه مثل تل ناشر وَغَيره
قَالَ ابْن الْأَثِير وَمَا اقبح بالملوك وَأَبْنَاء الْمُلُوك أَن يكون هَذَا الرجل الْغَرِيب الْمُنْفَرد احسن سيرة واعف عَن أَمْوَال الرّعية واقرب إِلَى الْخَيْر مِنْهُم وَلَا اعْلَم الْيَوْم فِي وُلَاة أُمُور الْمُسلمين احسن سيرة مِنْهُ وَلَقَد بَلغنِي عَنهُ كل حسن وَجَمِيل اهـ
أَقُول لَيْسَ الحزم وَحسن الْحَال بِالْآبَاءِ والجدود وَإِنَّمَا هُوَ بالمعدن الْحسن الَّذِي يتكون مِنْهُ الْإِنْسَان كَمَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم النَّاس معادن كمعادن الذَّهَب وَالْفِضَّة خيارهم فِي الْجَاهِلِيَّة خيارهم فِي الْإِسْلَام حَدِيث

الصفحة 118