كتاب منادمة الأطلال ومسامرة الخيال

أَيْضا ينكسر قلبه ويتغير لأجل ذَلِك فَكَانَ هَذَا الْوَقْف جبرا للقلوب جزى الله خيرا من تسامت همته فِي الْخَيْر إِلَى مثل هَذَا وَأهل دمشق يتنافسون فِي عمَارَة الْمَسَاجِد والزوايا والمدارس والمشاهد
ثمَّ قَالَ وكل من انْقَطع بِجِهَة من جِهَات دمشق لابد أَن يَتَأَتَّى لَهُ وَجه من المعاش من إِمَامَة مَسْجِد أَو قِرَاءَة بمدرسة أَو مُلَازمَة مَسْجِد يَجِيء إِلَيْهِ فِيهِ رزقه أَو قِرَاءَة الْقُرْآن أَو خدمَة مشْهد من الْمشَاهد الْمُبَارَكَة أَو يكون كجملة الصُّوفِيَّة بالخوانق تجرى لَهُ النَّفَقَة وَالْكِسْوَة فَمن كَانَ بهَا غَرِيبا على خير لم يزل مصونا عَن بذل وَجهه مَحْفُوظًا عَمَّا يزري بالمروءة وَمن كَانَ من أهل المهنة والخدمة فَلهُ أَسبَاب آخر من حراسة بُسْتَان أَو أَمَانَة طاحون أَو كَفَالَة صبيان يَغْدُو مَعَهم إِلَى التَّعْلِيم وَيروح وَمن أَرَادَ طلب الْعلم أَو التفرغ لِلْعِبَادَةِ وجد الْإِعَانَة التَّامَّة على ذَلِك وَمن فَضَائِل أهل دمشق انه لَا يفْطر أحد مِنْهُم فِي ليَالِي رَمَضَان وَحده الْبَتَّةَ فَمن كَانَ من الْأُمَرَاء والقضاة والكبراء فانه يَدْعُو أَصْحَابه والفقراء يفطرون عِنْده وَمن كَانَ من التُّجَّار وكبار السوقة صنع مثل ذَلِك وَمن كَانَ من الضُّعَفَاء والبادية فانهم يَجْتَمعُونَ كل لَيْلَة فِي دَار أحدهم وَفِي مَسْجِد وَيَأْتِي كل أحد بِمَا عِنْده فيفطرون جَمِيعًا
ثمَّ قَالَ وَكَانَ بِدِمَشْق فَاضل من كبرائها وَهُوَ الصاحب عز الدّين القلانسي لَهُ مآثر وَمَكَارِم وفضائل وإيثار وَهُوَ ذُو مَال عريض وَذكروا أَن الْملك النَّاصِر لما قدم دمشق أَضَافَهُ وَجَمِيع أهل دولته ومماليكه وخواصه ثَلَاثَة أَيَّام فَسَماهُ إِذْ ذَاك بالصاحب
وَمِمَّا يُؤثر من فضائلهم أَن أحد مُلُوكهمْ السالفين لما نزل بِهِ الْمَوْت أوصى أَن يدْفن بقبلة الْجَامِع المكرم وَيخْفى قَبره وَعين أوقافا عَظِيمَة لقراء يقرؤون سبعا من الْقُرْآن الْكَرِيم فِي كل يَوْم اثر صَلَاة الصُّبْح بالجهة الشرقية من مَقْصُورَة الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم حَيْثُ قَبره فَصَارَت قِرَاءَة الْقُرْآن على قَبره لَا تَنْقَطِع أبدا وَبَقِي ذَلِك الرَّسْم الْجَمِيل بعده مخلدا
وَمن عَادَة أهل دمشق وَسَائِر تِلْكَ الْبِلَاد انهم يخرجُون بعد صَلَاة الْعَصْر من يَوْم عَرَفَة فيقفون بصحون الْمَسَاجِد كبيت الْمُقَدّس وجامع بني أُميَّة وسواها وَيقف بهم أئمتهم كاشفي رؤوسهم داعين خاضعين خاشعين ملتمسين الْبركَة ويتوخون

الصفحة 55