كتاب التوهم في وصف أحوال الآخرة
الحشر إلى ربك، فتوهَّم نفسك في نزع الموت وكربه وغصصه وسكراته وغمه وقلقه، وقد بدأ الملَك يجذب روحك من قدمك، فوجدتَ ألم جَذْبه من أسفل قدميك، ثم تدارك الجذب واستحثَّ النزع، وجُذبت الروح من جميع بدنك، فنشطتْ من أسفلك متصاعدةً إلى أعلاك، حتى إذا بلغ منك الكرب منتهاه، وعمت آلام (¬1) الموت جميع جسمك، وقلبك وجلٌ محزون مرتقب منتظر للبشرى (¬2) من الله عز وجل بالغضب أو الرضا، وقد علمتَ أنه لا محيص لك دون أن تسمع إحدى البشريين من الملَك الموكَّل بقبض روحك (¬3) .
فبينا أنت في كربك وغمومك وألم الموت بسكراته وشدة حزنك لارتقابك إحدى البشريين من ربك، إذ نظرتَ إلى صفحة وجه ملك الموت بأحسن الصورة أو بأقبحها، ونظرتَ إليه مادًّا يده إلى فيك ليخرج روحك من بدنك، فذلتْ نفسك لمَّا عاينتَ ذلك وعاينتَ وجه ملك الموت، وتعلق قلبك بماذا يفجأك من البشرى منه (¬4) ،
إذا سمعت صوته بنغمته: أبشر يا ولي الله برضا الله وثوابه، أو أبشر يا عدو الله بغضبه وعقابه، فتستيقن حينئذ بنجاتك وفوزك، ويستقر الأمر في قلبك، فتطمئن إلى (¬5) الله نفسك، أو تستيقن بعطبك وهلاكك،
¬_________
(¬1) كذا أثبتها (أ) من الهامش.
(¬2) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [للبشرا] .
(¬3) أخرج الإمام أحمد في مسنده (4/287) : ثنا أبو معاوية قال ثنا الأعمش عن منهال بن عمرو عن زاذان عن البراء بن عازب قال: خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر ولما يلحد فجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجلسنا حوله وكأن على رؤوسنا الطير، وفي يده عود ينكت في الأرض فرفع رأسه فقال: " استعيذوا بالله من عذاب القبر ". مرتين أو ثلاثاً ثم قال: " إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة، نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه، كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة، وحنوط من حنوط الجنة، حتى يجلسوا منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت عليه السلام حتى يجلس عند رأسه فيقول: ((أيتها النفس الطيبة أخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان)) ..قال: فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء، فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض. قال: فيصعدون بها فلا يمرون يعني بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الطيب؟ فيقولون: فلان بن فلان بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا، حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا فيستفتحون له فيفتح لهم، فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها حتى ينتهي به إلى السماء السابعة فيقول الله عز وجل: ((اكتبوا كتاب عبدي في عليين، وأعيدوه إلى الأرض فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى)) . قال: فتعاد روحه في جسده فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: ((من ربك)) ؟ فيقول: ربي الله. فيقولان له: ((ما دينك)) ؟ فيقول: ديني الإسلام. فيقولان له: ((ما هذا الرجل الذي بعث فيكم)) ؟ فيقول: هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فيقولان له: ((وما علمك)) ؟ فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت. فينادي مناد في السماء: ((أن صدق عبدي فافرشوه من الجنة وألبسوه من الجنة وافتحوا له باباً إلى الجنة. قال: فيأتيه من روحها وطيبها ويفسح له في قبره مد بصره. قال: ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح فيقول: أبشر بالذي يسرك هذا يومك الذي كنت توعد؟ فيقول له: من أنت فوجهك الوجه يجيء بالخير؟ فيقول: أنا عملك الصالح. فيقول: رب أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي.
قال: " وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه معهم المسوح فيجلسون منه مد البصر ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: ((يا أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من الله وغضب. قال: فتفرق في جسده فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، فيأخذها. فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض. فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الخبيث؟ فيقولون: فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا حتى ينتهي به إلى السماء الدنيا فيستفتح له فلا يفتح له، ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - {لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط} ، فيقول الله عز وجل: ((اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى)) . فتطرح روحه طرحاً ثم قرأ {ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق} فتعاد روحه في جسده ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: ((من ربك)) ؟ فيقول: هاه هاه لا أدري. فيقولان له: ((ما دينك)) ؟ فيقول: هاه هاه لا أدري. فيقولان له: ((ما هذا الرجل الذي بعث فيكم)) ؟ فيقول: هاه هاه لا أدري. فينادى مناد من السماء أن كذب فافرشوا له من النار وافتحوا له باباً إلى النار فيأتيه من حرها وسمومها ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه قبيح الثياب منتن الريح فيقول: أبشر بالذي يسوءك هذا يومك الذي كنت توعد. فيقول: من أنت فوجهك الوجه يجيء بالشر؟ فيقول: أنا عملك الخبيث. فيقول: رب لا تقم الساعة.
والحديث صحيح، فله طرق فقد أخرجه أبو داود (4/239، 240) ح4753، 4754، وأحمد (4/287، 288، 295) ، والحاكم في مستدركه (1/93) ح107، (1/95) ح109، 110، (1/97) ح113، 114، (1/208) ح414، وأبو داود الطيالسي ص102 ح753، والطبراني في الأحاديث الطوال ص238 ح25، كما أخرجه مختصراً أبو داود ح3212، والنسائي في المجتبى (4/78) ، وفي الكبرى ح2128، وابن ماجة ح1549، وأحمد (4/297) ، وانظر تحقيقنا لكتاب ((الثبات عند الممات)) لابن الجوزي طبعة ((دار الجيل)) ص 143.
(¬4) وأخرج الإمام أحمد في مسنده (2/364) حدثنا [حسين] بن محمد حدثنا ابن أبي ذئب عن محمد بن عمرو بن عطاء عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " إن الميت تحضره الملائكة فإذا كان الرجل الصالح قالوا: ((اخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب اخرجي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان)) . قال: " فلا يزال يقال ذلك حتى تخرج ثم يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها فيقال: من هذا؟ فيقال: فلان. فيقولون: مرحباً بالنفس الطيبة كانت في الجسد الطيب، ادخلي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان. قال: فلا يزال يقال لها حتى ينتهي بها إلى السماء التي فيها الله عز وجل.
وإذا كان الرجل السوء قالوا: اخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث اخرجي ذميمة وأبشري بحميم وغساق وآخر من شكله أزواج. فلا يزال حتى يخرج ثم يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها فيقال: من هذا؟ فيقال: فلان. فيقال: لا مرحباً بالنفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث، ارجعي ذميمة فإنه لا يفتح لك أبواب السماء فترسل من السماء ثم تصير إلى القبر.
وإسناده صحيح، فرجاله كلهم ثقات رجال الكتب الستة. ولفظ [حسين] تحرف في المسند إلى [حسن] ، والصواب حسين وهو حسين بن محمد بن بهرام.
والحديث أخرجه أيضاً ابن ماجة ح4262، والنسائي في الكبرى ح11442.
(¬5) قال (أ) : ناقص من الأصل.
الصفحة 6
80