كتاب الفصل في الملل والأهواء والنحل (اسم الجزء: 1)

عينه ابْتِدَاء نزُول المَاء فَيرى خيالات لَا حَقِيقَة لَهَا وكسائر الْآفَات الدَّاخِلَة على الْحَواس قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَهَذِهِ الْمُقدمَات الَّتِي ذَكرنَاهَا هِيَ الصَّحِيحَة الَّتِي لَا شكّ فِيهَا وَلَا سَبِيل إِلَى أَن يطْلب عَلَيْهَا دَلِيلا إِلَّا مَجْنُون أَو جَاهِل لَا يعلم حقائق الْأَشْيَاء وَمن الطِّفْل أهْدى مِنْهُ وَهَذَا أَمر يَسْتَوِي فِي الْإِقْرَار بِهِ كبار جَمِيع بني آدم وصغارهم فِي أقطار الأَرْض إِلَّا من غالط حسه وكابر عقله فيحلق بالمجانين لِأَن الِاسْتِدْلَال على الشَّيْء لَا يكون إِلَّا فِي زمَان وَلَا بُد ضَرُورَة أَن يعلم ذَلِك بِأول الْعقل لِأَنَّهُ قد علم بضرورة الْعقل أَنه لَا يكون شَيْء مِمَّا فِي الْعَالم إِلَّا فِي وَقت وَلَيْسَ بَين أول أَوْقَات تَمْيِيز النَّفس فِي هَذَا الْعَالم وَبَين إِدْرَاكهَا لكل مَا ذكرنَا مهلة الْبَتَّةَ لَا دقيقة وَلَا جليلة وَلَا سَبِيل على ذَلِك فصح أَنَّهَا ضرورات أوقعهَا الله فِي النَّفس وَلَا سَبِيل إِلَى الِاسْتِدْلَال الْبَتَّةَ إِلَّا من هَذِه الْمُقدمَات وَلَا يَصح شَيْء إِلَّا بِالرَّدِّ إِلَيْهَا فَمَا شهِدت لَهُ مُقَدّمَة من هَذِه الْمُقدمَات بِالصِّحَّةِ فَهُوَ صَحِيح مُتَيَقن وَمَا لم تشهد لَهُ بِالصِّحَّةِ فَهُوَ بَاطِل سَاقِط إِلَّا أَن الرُّجُوع إِلَيْهَا قد يكون من قرب وَمن بعد فَمَا كَانَ من قرب فَهُوَ أظهر إِلَى كل نفس وَأمكن للفهم وَكلما بَعدت الْمُقدمَات الْمَذْكُورَة صَعب الْعَمَل فِي الِاسْتِدْلَال حَتَّى يَقع فِي ذَلِك الْغَلَط إِلَّا للفهم الْقوي الْفَهم والتمييز وَلَيْسَ ذَلِك مِمَّا يقْدَح فِي أَن مَا رَجَعَ إِلَى مُقَدّمَة من الْمُقدمَات الَّتِي ذكرنَا حق كَمَا أَن تِلْكَ الْمُقدمَة حق لَا فرق بَينهمَا فِي أَنَّهُمَا حق وَهَذَا مثل الْأَعْدَاد فَكلما قلت الْأَعْدَاد سهل جمعهَا وَلم يَقع فِيهَا غلط حَتَّى إِذا كثرت الْأَعْدَاد وَكثر الْعَمَل فِي جمعهَا صَعب ذَلِك حَتَّى يَقع فِيهَا الْغَلَط إِلَّا مَعَ الحاسب الْكَافِي الْمجِيد وَكلما قرب من ذَلِك وَبعد فَهُوَ كُله حق وَلَا تفاضل فِي شَيْء من ذَلِك وَلَا تعَارض مُقَدّمَة مِمَّا ذكرنَا مُقَدّمَة أُخْرَى مِنْهَا وَلَا يُعَارض مَا يرجع إِلَى مُقَدّمَة أُخْرَى مِنْهَا رُجُوعا صَحِيحا وَهَذَا كُله يعلم بِالضَّرُورَةِ وَمن علم النَّفس بِأَن علم الْغَيْب لَا يُعَارض صَحَّ ضَرُورَة أَنه لَا يُمكن أَن يَحْكِي أحد خَبرا كَاذِبًا طَويلا فَيَأْتِي من لم يسمعهُ فيحكي ذَلِك الْخَبَر بِعَيْنِه كَمَا هُوَ لَا يزِيد فِيهِ وَلَا ينقص إِذْ لَو أمكن ذَلِك لَكَانَ الحاكي لمثل ذَلِك الْخَبَر عَالما بِالْغَيْبِ لِأَن هَذَا هُوَ علم الْغَيْب نَفسه وَهُوَ الْإِخْبَار عَمَّا لَا يعلم الْمخبر عَنهُ بِمَا هُوَ عَلَيْهِ وَذَلِكَ كَذَلِك بِلَا شكّ فَكل مَا نَقله من الْأَخْبَار اثْنَان فَصَاعِدا مفترقان قد أيقنا أَنَّهُمَا لم يجتمعا وَلَا تشاعرا فَلم يختلفا فِيهِ فبالضرورة يعلم أَنه حق مُتَيَقن مَقْطُوع بِهِ على غيبه وَبِهَذَا علمنَا صِحَة موت من مَاتَ وولادة من ولد وعزل من عزل وَولَايَة من ولى وَمرض من مرض وافاقة من أَفَاق ونكبة من نكب والبلاد الغائبة عَنَّا والوقائع

الصفحة 13