كتاب الفصل في الملل والأهواء والنحل (اسم الجزء: 4)

لن تراني قَالُوا فقد سَأَلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام أمرا عُوقِبَ سائلوه قبله.
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا لَا حجَّة لَهُم فِيهِ لِأَنَّهُ خَارج على وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام سَأَلَ ذَلِك قبل سُؤال بني إِسْرَائِيل رُؤْيَة الله تَعَالَى وَقبل أَن يعلم أَن سُؤال ذَلِك لَا يجوز فَهَذَا لَا مَكْرُوه فِيهِ لِأَنَّهُ سَأَلَ فَضِيلَة عَظِيمَة أَرَادَ بهَا علو الْمنزلَة عِنْد ربه تَعَالَى وَالثَّانِي أَن بني إِسْرَائِيل سَأَلُوا ذَلِك متعنتين وشكاكا فِي الله عز وَجل ومُوسَى سَأَلَ ذَلِك على الْوَجْه الْحسن الَّذِي ذكرنَا آنِفا.
الْكَلَام على يُونُس عَلَيْهِ السَّلَام
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَذكروا أَمر يُونُس عَلَيْهِ السَّلَام وَقَول الله تَعَالَى عَنهُ {وَذَا النُّون إِذْ ذهب مغاضباً فَظن أَن لن نقدر عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَات أَن لَا إِلَه إِلَّا أَنْت سُبْحَانَكَ أَنِّي كنت من الظَّالِمين} وَقَوله تَعَالَى {فلولا أَنه كَانَ من المسبحين للبث فِي بَطْنه إِلَى يَوْم يبعثون} وَقَوله لنَبيه عَلَيْهِ السَّلَام {فأصبر لحكم رَبك وَلَا تكن كصاحب الْحُوت إِذْ نَادَى وَهُوَ مكظوم لَوْلَا أَن تَدَارُكه نعْمَة من ربه لنبذ بالعراء وَهُوَ مَذْمُوم} وَقَوله تَعَالَى {فالتقمه الْحُوت وَهُوَ مليم} قَالُوا وَلَا ذَنْب أعظم من المغاضبة لله عز وَجل وَمن أكبر ذَنبا مِمَّن ظن أَن الله لَا يقدر عَلَيْهِ وَقد أخبر الله تَعَالَى أَنه اسْتحق الذَّم لَوْلَا أَن تَدَارُكه نعْمَة الله عز وَجل وَأَنه اسْتحق الْمَلَامَة وَأَنه أقرّ على نَفسه أَنه كَانَ من الظَّالِمين وَنهى الله تَعَالَى نبيه أَن يكون مثله قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذَا كُله لَا حجَّة لَهُم فِيهِ بل هُوَ حجَّة لنا على صِحَة قَوْلنَا وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين أما أَخْبَار الله تَعَالَى أَن يُونُس ذهب مغاضباً فَلم يغاضب ربه قطّ وَلَا قَالَ الله تَعَالَى أَنه غاضب ربه فَمن زَاد هَذِه الزِّيَادَة كَانَ قَائِلا على الله الْكَذِب وزائداً فِي الْقُرْآن مَا لَيْسَ فِيهِ هَذَا لَا يحل وَلَا يجوز أَن يظنّ بِمن لَهُ أدنى مسكة من عقل أَنه يغاضب ربه تَعَالَى فَكيف أَن يفعل ذَلِك نَبِي من الْأَنْبِيَاء فَعلمنَا يَقِينا أَنه إِنَّمَا غاضب قومه وَلم يُوَافق ذَلِك مُرَاد الله عز وَجل فَعُوقِبَ بذلك وَأَن كَانَ يُونُس عَلَيْهِ السَّلَام لم يقْصد بذلك إِلَّا رضَا الله عز وَجل وَأما قَوْله تَعَالَى {فَظن أَن لن نقدر عَلَيْهِ} فَلَيْسَ على مَا ظنوه من الظَّن السخيف الَّذِي لَا يجوز أَن يظنّ بضعيفة من النِّسَاء أَو بضعيف من الرِّجَال إِلَّا أَن يكون قد بلغ الْغَايَة من الْجَهْل فَكيف بِنَبِي مفصل على النَّاس فِي الْعلم وَمن الْمحَال الْمُتَيَقن أَن يكون نَبِي يظنّ أَن الله تَعَالَى الَّذِي أرْسلهُ بِدِينِهِ لَا يقدر عَلَيْهِ وَهُوَ يرى أَن آدَمِيًّا مثله يقدر عَلَيْهِ وَلَا شكّ فِي أَن من نسب هَذَا للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْفَاضِل فَإِنَّهُ يشْتَد غَضَبه لَو نسب ذَلِك إِلَيْهِ أَو إِلَى ابْنه فَكيف إِلَى يُونُس عَلَيْهِ السَّلَام الَّذِي يَقُول فِيهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تفضلُونِي على يُونُس بن مَتى فقد بَطل ظنهم بِلَا شكّ وَصَحَّ أَن معنى قَوْله {فَظن أَن لن نقدر عَلَيْهِ}

الصفحة 13