كتاب الفصل في الملل والأهواء والنحل (اسم الجزء: 4)

مخلدا أَبَد وبيقين نَدْرِي أَن قَائِل هَذِه الْأَقْوَال مطَالب لِلْإِسْلَامِ كأدلة مرصد لأهل دَاعِيَة إِلَى الْكفْر ونعوذ بِاللَّه من الضلال وَقَالُوا كلهم أَن طَعَام رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المئين والعشرات من صَاع شعير مرّة بعد مرّة وسقيه الْألف والألوف من مَاء يسير يَنْبع من بَين أَصَابِعه وحنين الْجذع ومجيء الشَّجَرَة وَتكلم الذِّرَاع وشكوى الْبَعِير ومجيء الذِّئْب لَيْسَ شَيْء من ذَلِك دلَالَة على صدق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي نبوته لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام لم يتحد النَّاس بذلك وَلَا يكون عِنْدهم آيَة إِلَّا مَا تحدى بِهِ الْكفَّار فَقَط وَهَذَا تَكْذِيب مِنْهُم للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قَوْله إِذْ فعل ذَلِك أشهد أَنِّي رَسُول الله وَهَذَا أَيْضا قَول افتروه خالفوا فِيهِ جَمِيع أهل الْإِسْلَام وَقَالُوا كلهم لَيْسَ لشَيْء من الْأَشْيَاء نصف وَلَا ثلث وَلَا ربع وَلَا سدس وَلَا ثمن وَلَا عشر وَلَا بعض وَأَنه لَا يجوز أَن يُقَال الْفَرد عشر الْعشْرَة وَلَا أَنه بعض الْخَمْسَة وحجتهم فِي ذَلِك أَنه لَو جَازَ أَن يُقَال ذَلِك لَكَانَ عشرا لنَفسِهِ وَبَعض نَفسه
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا جهل شَدِيد لِأَنَّهُ إِنَّمَا هُوَ بعض من جملَة يكون سائرها غَيره وَعشر جملَة يكون سائرها غَيره ونسوا أنفسهم فَقَالُوا بالجزء لَا يتَجَزَّأ ونسوا إِلْزَام أنفسهم أَن يكون جُزْءا لنَفسِهِ وَهَذَا تَكْذِيب لله عز وَجل إِذْ يَقُول فِي الْقُرْآن فلهَا النّصْف فلامه الثُّلُث فلامه السُّدس وَلكم الرّبع ولهن الثّمن بَعضهم أَوْلِيَاء بعض وَهَذَا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كثير مَعَ مخالفتهم فِي ذَلِك جَمِيع أهل الأَرْض مؤمنهم وكافرهم وَمُخَالفَة كل لُغَة والمعقول والطبائع وَقَالُوا كلهم من قَالَ أَن النَّار تحرق أَو تفلح أَو أَن الأَرْض تهتز أَو تنْبت شَيْئا أَو أَن الْخمر يسكر أَو أَن الْخبز يشْبع أَو أَن المَاء يروي أَو أَن الله تَعَالَى ينْبت الزَّرْع وَالشَّجر بِالْمَاءِ فقد ألحد وافترى وَقَالَ الباقلاني من آخر السّفر الرَّابِع من كِتَابه الْمَعْرُوف بالانتصار فِي الْقُرْآن نَحن ننكر فعل النَّار للتسخين والإحراق وننكر فعل الثَّلج للتبريد وَفعل الطَّعَام وَالشرَاب للشبع والري وَالْخمر للإسكار كل هَذَا عندنَا بَاطِل محَال ننكره أَشد الْإِنْكَار وَكَذَلِكَ فعل الْحجر لجذب شَيْء أَو رده أَو حَبسه أَو إِطْلَاقه من جَدِيد أَو غَيره هَذَا نَص كَلَامه
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا تَكْذِيب مِنْهُم لله عز وَجل إِذْ يَقُول {تلفح وُجُوههم النَّار} وَلقَوْله تَعَالَى {ونزلنا من السَّمَاء مَاء مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جنَّات وَحب الحصيد} وَقَوله تَعَالَى {إِنَّا نسوق المَاء إِلَى الأَرْض الجرز فنخرج بِهِ زرعا تَأْكُل مِنْهُ أنعامهم وأنفسهم} الْآيَة وَقَوله تَعَالَى {فَإِذا أنزلنَا عَلَيْهَا المَاء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج} وَقد صككت بِهَذَا وَجه بعض مقدميهم فِي المناظرة فدهش وبلد وَهُوَ أَيْضا تَكْذِيب لقَوْل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ يَقُول كل مُسكر حرَام وكل سراب أسكر حرَام مَعَ مخالفتهم لكل لُغَة وَلكُل ذِي حس من مُسلم وَكَافِر ومكابرة العيان وَإِبْطَال الْمُشَاهدَة ثمَّ أظرف شَيْء احتجاجهم فِي هَذِه الطامة بِأَن الله عز وَجل هُوَ الَّذِي خلق ذَلِك كُله فَقُلْنَا لَهُم أوليس فعل كل حَيّ مُخْتَار واختياره خلقا لله عز وَجل فَلَا بُد من قَوْلهم نعم فَيُقَال لَهُم فَمن أَيْن نسبتم الْفِعْل إِلَى الْأَحْيَاء وَهِي خلق الله تَعَالَى ومنعتم من نِسْبَة الْفِعْل إِلَى الجمادات لِأَنَّهُ خلق الله تَعَالَى وَلَا فرق وَلَكنهُمْ قوم لَا يعْقلُونَ
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَسمعت بعض مقدميهم يَقُول أَن من كَانَ على معاصي خَمْسَة من زنا وسرقة وَترك صَلَاة وتضييع زَكَاة وَغير ذَلِك ثمَّ تَابَ عَن بَعْضهَا دون بعض فَإِن تَوْبَته تِلْكَ لَا تقبل وَقد نَص السمناني على أَن هَذَا قَول الباقلاني وَهُوَ قَول أبي هَاشم الجبائي ثمَّ قَالَ السمناني

الصفحة 164