كتاب الفصل في الملل والأهواء والنحل (اسم الجزء: 4)

أَن من كَانَ صَبيا ثمَّ عَاشَ حَتَّى شاخ أَنه لم يكن عِنْد الله قطّ إِلَّا شَيخا وَلَو جمع مَا يدْخل عَلَيْهِم لقام مِنْهُ سفر ضخم وَقَالُوا كلهم أَنه لَيْسَ على ظهر الأَرْض يَهُودِيّ وَلَا نَصْرَانِيّ يقر بِقَلْبِه أَن الله حق
قَالَ أَبُو مُحَمَّد هَذَا تَكْذِيب لِلْقُرْآنِ على مَا بَينا قبل ومكابرة للعيان لأَنا لَا نحصي كم دخل فِي الْإِسْلَام مِنْهُم وَصلح إيمَانه وَصَارَ عدلا وَكلهمْ لَا يخْتَلف فِي أَنه كَانَ قبل إِسْلَامه مقرا بِاللَّه عز وَجل عَالما بِهِ كَمَا هُوَ بعد إِسْلَامه لم يزدْ فِي توحيده شَيْء فكابر والعيان وكذبوا لِلْقُرْآنِ بحمق وَقلة حَيَاء لَا نَظِير لَهُ وَقَالَ الباقلاني فِي كِتَابه الْمَعْرُوف بالانتصار فِي الْقُرْآن مني قَول الله تَعَالَى {وَلَا يرضى لِعِبَادِهِ الْكفْر} وَقَوله تَعَالَى {لَا يحب الْفساد} إِنَّمَا مَعْنَاهُ لَا يحب الْفساد لأهل الصّلاح وَلَا يرضى لِعِبَادِهِ الْمُؤمنِينَ أَن يكفروا وَلم يرد أَنه لَا يرضاه لأحد من خلقه وَلَا يُحِبهُ لأحد مِنْهُم ثمَّ قَالَ وَإِن كَانَ قد أحب ذَلِك ورضيه لأهل الْكفْر وَالْفساد
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا تَكْذِيب لله تَعَالَى مُجَرّد ثمَّ أَيْضا أخبر بِأَن الْكفَّار فعلوا من الْكفْر أمرا رضيه الله تَعَالَى مِنْهُم وأحبه مِنْهُم فَكيف يدْخل هَذَا فِي عقل مُسلم مَعَ قَوْله تَعَالَى {اتبعُوا مَا أَسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أَعْمَالهم} وأعجبوا لظلمة جَهله إِذْ لم يفرق بَين إِرَادَة الْكفْر والمشيئة والخلق لَهُ وَبَين الرِّضَا والمحبة وَقَالَ أَيْضا فِيهِ أَن أقل من سُورَة من الْقُرْآن لَيْسَ بمعجز أصلا بل هُوَ مَقْدُور على مثله وَقَالَ أَيْضا فِي السّفر الْخَامِس من الدِّيوَان الْمَذْكُور أَن قيل كَيفَ تَقولُونَ أَكَانَ يجوز من الله أَن يؤلف الْقُرْآن تأليفاً آخر غير هَذَا يعجز الْخلق عَن مُقَابلَته قُلْنَا نعم هُوَ تَعَالَى قَادر على ذَلِك وعَلى مَا لَا غَايَة لَهُ من هَذَا الْبَاب وعَلى أقدار كَثِيرَة وأعداد لَا يحصيها غَيره إِلَّا أَن كَانَ تأليف الْكَلَام ونظم الْأَلْفَاظ لَا بُد أَن يبلغ إِلَى غَايَة وحد لَا يحْتَمل الْكَلَام أَكثر مِنْهُ وَلَا أوسع وَلَا يبْقى وَرَاء تِلْكَ الْأَعْدَاد نَص والأوزان شَيْء تتناوله الْقُدْرَة قَالَ وَلنَا فِي هَذِه الْمَسْأَلَة نظر فِي تأليف الْكَلَام ونظم الْأَجْسَام وتصوير الْأَشْخَاص هَل يجب أَن يكون نِهَايَة لَا يحْتَمل الْمُؤلف والمنظوم فَوْقهَا وَلَا مَا هُوَ أَكثر مِنْهَا أم لَا
قَالَ أَبُو مُحَمَّد هُنَا صرح بِالشَّكِّ فِي قدرَة الله تَعَالَى الها نِهَايَة كَمَا يَقُول أَبُو الْهُذيْل أَخُوهُ فِي الضلال وَالْكفْر أم لَا نِهَايَة لَهَا كَمَا يَقُول أهل الْإِسْلَام ونعوذ بِاللَّه من الضلال
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَلَقَد أَخْبرنِي بعض من كَانَ يداخلهم وَكَانَ لَهُ فيهم سَبَب قوي وَكَانَ من أهل الْفَهم والذكاء وَكَانَ يزري فِي بَاطِن أمره عَلَيْهِم أَنهم يَقُولُونَ أَن الله تَعَالَى مذ خلق الأَرْض فَإِنَّهُ خلق جسماً عَظِيما يمْسِكهَا عَن أَن تهوى هابطة فَلَمَّا خلق ذَلِك الْجِسْم أفناه فِي الْوَقْت بِلَا زمَان وَخلق آخر مثله يمْسِكهَا أَيْضا فَلَمَّا خلقه أفناه إِثْر خلقه بِلَا زمَان أَيْضا وَخلق آخر وَهَكَذَا أبدا أبدا بِلَا نِهَايَة قَالَ لي وحجتهم فِي هَذَا الوسواس وَالْكذب على الله تَعَالَى فِيهِ مِمَّا لم يقلهُ أحد قبلهم مِمَّا يكذبهُ الْحس والمشاهدة أَنه لَا بُد للْأَرْض من جسم مُمْسك والاهوت فَلَو كَانَ ذَلِك الممسك يبْقى وَقْتَيْنِ أَو مِقْدَار طرفَة عين لسقط هُوَ أَيْضا مَعهَا فَهُوَ إِذا خلق ثمَّ أفنى إِثْر خلقه وَلم يَقع لِأَن الْجِسْم عِنْدهم فِي ابْتِدَاء خلقه لَا سَاكن وَلَا متحرك
قَالَ أَبُو مُحَمَّد وَهَذَا احتجاج للحمق بالحمق وَمَا عقل أحد قطّ جسماً لَا سَاكِنا وَلَا متحركاً بل الْجِسْم فِي ابتداه خلق الله تَعَالَى لَهُ فِي مَكَان مُحِيط بِهِ فِي جهاته وَلَا شكّ سَاكن فِي مَكَانَهُ ثمَّ تحرّك وَكَأَنَّهُم لم يسمعوا لقَوْل الله تَعَالَى {أَن الله يمسك السَّمَاوَات وَالْأَرْض أَن تَزُولَا}

الصفحة 166