كتاب إحياء علوم الدين (اسم الجزء: 4)

فرجم فكان الناس فيه فريقين فقائل يقول لقد هلك وأحاطت به خطيئته وقائل يقول ما توبة أصدق من توبته فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لو سعتهم (¬1) وجاءت الغامدية فقالت يا رسول الله إني قد زنيت فطهرني فردها فلما كان من الغد قالت يا رسول الله لم تردني لعلك تريد أن ترددنى كما رددت ما عزا فو الله إني لحبلى فقال صلى الله عليه وسلم أما الآن فاذهبي حتى تضعي فلما ولدت أتت بالصبي في خرقة فقالت هذا قد ولدته قال اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه فلما فطمته أتت بالصبي وفي يده كسرة خبز فقالت يانبى الله قد فطمته وقد أكل الطعام فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها وأمر الناس فرجموها فأقبل خالد بن الوليد بحجر فرمى رأسها فتنضح الدم على وجهه فسبها فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبه إياها فقال مهلا يا خالد فو الذى نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له ثم أمر بها فصلي عليها ودفت (¬2)
وأما القصاص وحد القذف فلا بد من تحليل صاحبه المستحق فيه وإن كان المتناول مالا تناوله بِغَصْبٍ أَوْ خِيَانَةٍ أَوْ غَبْنٍ فِي مُعَامَلَةٍ بِنَوْعِ تَلْبِيسٍ كَتَرْوِيجِ زَائِفٍ أَوْ سَتْرِ عَيْبٍ مِنَ الْمَبِيعِ أَوْ نَقْصِ أُجْرَةِ أَجِيرٍ أَوْ منع أجرته فكل ذلك يجب أن يفتش عنه لا من حد بلوغه بل من أول مدة وجوده فإن ما يجب في مال الصبي يجب على الصبي إخراجه بعد البلوغ إن كان الولي قد قصر فيه فإن لم يفعل كان ظالماً مطالباً به إذ يستوي في الحقوق المالية الصبي والبالغ وليحاسب نفسه على الحبات والدوانق من أول يوم حياته إلى يوم توبته قَبْلَ أَنْ يُحَاسَبَ فِي الْقِيَامَةِ وَلْيُنَاقِشْ قَبْلَ أَنْ يُنَاقَشَ فَمَنْ لَمْ يُحَاسِبْ نَفْسَهُ فِي الدنيا طال في الآخرة حسابه فإن حصل مجموع ما عليه بظن غالب ونوع من الاجتهاد ممكن فليكتبه وليكتب أسامي أصحاب المظالم واحداً واحداً وليطف في نواحي العالم وليطلبهم وليستحلهم أو ليؤد حقوقهم وهذه التوبة تشق على الظلمة وعلى التجار فإنهم لا يقدرون على طلب المعاملين كلهم ولا على طلب ورثتهم ولكن على كل واحد منهم أن يفعل منه ما يقدر عليه فَإِنْ عَجَزَ فَلَا يَبْقَى لَهُ طَرِيقٌ إِلَّا أن يكثر من الحسنات حتى تفيض عنه يوم القيامة فتؤخذ حسناته وتوضع في موازين أرباب المظالم ولكن كثرة حسناته بقدر كثرة مظالمه فإنه إن لم تف بها حسناته حمل من سيئاته أرباب المظالم فيهلك بسيئات غيره فَهَذَا طَرِيقُ كُلِّ تَائِبٍ فِي رَدِّ الْمَظَالِمِ وهذا يوجب استغراق العمر في الحسنات لو طال العمر بحسب طول مدة الظلم فكيف وذلك مما لا يعرف وربما يكون الأجل قريباً فينبغي أن يكون تشميره للحسنات والوقت ضيق أشد من تشميره الذي كان في المعاصي في متسع الأوقات هذا حكم المظالم الثابتة في ذمته
أما أَمْوَالُهُ الْحَاضِرَةُ فَلْيَرُدَّ إِلَى الْمَالِكِ مَا يَعْرِفُ لَهُ مَالِكًا مُعَيَّنًا وَمَا لَا يَعْرِفُ لَهُ مَالِكًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ فَإِنِ اخْتَلَطَ الْحَلَالُ بِالْحَرَامِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْرِفَ قَدْرَ الْحَرَامِ بالاجتهاد ويتصدق بذلك المقدار كما سبق تفصيله في كتاب الحلال والحرام
وَأَمَّا الْجِنَايَةُ عَلَى الْقُلُوبِ بِمُشَافَهَةِ النَّاسِ بِمَا يسوؤهم أو يعيهم في الغيبة فيطلب كل من تعرض له بلسان أو آذى قلبه بفعل من أفعاله وليستحل واحداً واحداً منهم ومن مات أو غاب فَقَدْ فَاتَ أَمْرُهُ وَلَا يُتَدَارَكُ إِلَّا بِتَكْثِيرِ الحسنات لتؤخذ منه عوضاً في القيامة وأما من وَجَدَهُ وَأَحَلَّهُ بِطِيبِ قَلْبٍ مِنْهُ فَذَلِكَ كَفَّارَتُهُ وعليه أن يعرفه قدر جنايته
¬_________
(¬1) حديث اعتراف ما عز بالزنا ورده صلى الله عليه وسلم حتى اعترف اربعا وقوله لقد تاب توبة الحديث أخرجه مسلم من حديث بريدة بن الخصيب
(¬2) حديث الغامدية واعترافها بالزنا ورجمها وقوله صلى الله عليه وسلم لقد تابت توبة الحديث أخرجه مسلم من حديث بريدة وهو بعض الذى قبله

الصفحة 37