كتاب إحياء علوم الدين (اسم الجزء: 4)

فإن رأس المعاصي أكل الحرام فكيف يكون تائباً مع الإصرار عليه ولا يكتفي بالحلال وترك الشبهات من لا يقدر على ترك الشهوات في المأكولات والملبوسات وقد قال بعضهم من صدق في ترك شهوة وجاهد نفسه لله سبع مرار لم يبتل بها وقال آخر من تاب من ذنب واستقام سبع سنين لم يعد إليه أبداً وَمِنْ مُهِمَّاتِ التَّائِبِ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا أَنْ يَتَعَلَّمَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وما يحرم عليه حتى يمكنه الاستقامة وإن لم يؤثر العزلة لم تتم له الاستقامة المطلقة إلا أن يتوب عن بعض الذنوب كالذي يتوب عن الشرب والزنا والغصب مثلاً وليست هذه توبة مطلقة
وقد قال بعض الناس إن هذه التوبة لا تصح وقال قائلون تصح ولفظ الصحة في هذا المقام مجمل بل نقول لمن قال لا تصح إن عنيت به أن تركه بعض الذنوب لا يفيد أصلاً بلا وجوده كعدمه فما أعظم خطأك فإنا نعلم أن كثرة الذنوب سبب لكثرة العقاب وقلتها سبب لقلته ونقول لمن قال تصح إن أردت به أن التوبة عن بعض الذنوب توجب قبولاً يوصل إلى النجاة أو الفوز فهذا أيضاً خطأ بل النجاة والفوز بترك الجميع هذا حكم الظاهر ولسنا نتكلم في خفايا أسرار عفو الله فإن قال من ذهب إلى أنها لا تصح إني أردت به أن التوبة عبارة عن الندم وإنما يندم على السرقة مثلاً لكونها معصية لا لكونها سرقة ويستحيل أن يندم عليها دون الزنا إن كان توجعه لأجل المعصية فإن العلة شاملة لهما إذ من يتوجع على قتل ولده بالسيف يتوجع على قتله بالسكين لأن توجعه بفوات محبوبه سواء كان بالسيف أو بالسكين فكذلك توجع العبد بفوات محبوبه وذلك بالمعصية سواء عصى بالسرقة أو الزنا فكيف يتوجع على البعض دون البعض فالندم حالة يوجبها العلم بكون المعصية مفوتة للمحبوب من حيث إنها معصية فلا يتصور أن يكون على بعض المعاصي دون البعض ولو جاز هذا لجاز أن يتوب من شرب الخمر من أحد الدنين دون الآخر فإن استحال ذلك من حيث إن المعصية في الخمرين واحد وإنما الدنان ظروف فكذلك أعيان المعاصي آلات للمعصية والمعصية من حيث مخالفة الأمر واحدة فإذن معنى عدم الصحة أن الله تعالى وعد التائبين رتبة وتلك الرتبة لا تنال إلا بالندم ولا يتصور الندم على بعض المتماثلات فهو كالملك المرتب على الإيجاب والقبول فإنه إذا لم يتم الإيجاب والقبول نقول إن العقد لا يصح أي لم تترتب عليه الثمرة وهو الملك وتحقيق هذا أن ثمرة مجرد الترك أن ينقطع عنه عقاب ما تركه وثمرة الندم تكفير ما سبق فترك السرقة لا يكفر السرقة بل الندم عليها ولا يتصور الندم إلا لكونها معصية وذلك يعم جميع المعاصي وهو كلام مفهوم واقع يستنطق المنصف بتفصيل به ينكشف الغطاء
فنقول التوبة عن بعض الذنوب لا تخلو إما أن تكون عن الكبائر دون الصغائر أو عن الصغائر دون الكبائر أو عن كبيرة دون كبيرة أما التوبة عن الكبائر دون الصغائر فأمر ممكن لأنه يعلم أن الكبائر أعظم عند الله وأجلب لسخط الله ومقته والصغائر أقرب إلى تطرق العفو إليها فلا يستحيل أن يتوب عن الأعظم ويتندم عليه كالذي يجني على أهل الملك وحرمه ويجني على دابته فيكون خائفاً من الجناية على الأهل مستحقراً للجناية على الدابة والندم بحسب استعظام الذنب واعتقاد كونه مبعداً عن الله تعالى وهذا ممكن وجوده في الشرع فقد كثر التائبون في الأعصار الخالية ولم يكن أحد منهم معصوماً فلا تستدعي التوبة العصمة والطبيب قد يحذر المريض العسل تحذيراً شديداً ويحذره السكر تحذيراً أخف منه على وجه يشعر معه أنه ربما لا يظهر ضرر السكر أصلاً فيتوب المريض بقوله عن العسل دون السكر فهذا غير محال وجوده وإن أكلهما جميعاً بحكم شهوته ندم على أكل العسل دون السكر
الثاني أن يتوب عن بعض الكبائر دون بعض وهذا أيضاً ممكن لاعتقاده أن بعض الكبائر أشد وأغلظ عند

الصفحة 39