كتاب إحياء علوم الدين (اسم الجزء: 4)

وهو عبارة عن الاستغفار بالقلب وللتوبة والاستغفار درجات وأوائلها لا تخلو عن الفائدة وإن لم تنته إلى أواخرها ولذلك قال سهل لا بد للعبد في كل حال من مولاه فأحسن أحواله أن يرجع إليه في كل شيء فإن عصى قال يا رب استر علي فإذا فرغ من المعصية قال يا رب تب علي فإذا تاب قال يا رب ارزقني العصمة وإذا عمل قال يا رب تقبل مني وسئل أيضاً عن الاستغفار الذي يكفر الذنوب فقال أول الاستغفار الاستجابة ثم الإنابة ثم التوبة فالاستجابة أعمال الجوارح والإنابة أعمال القلوب والتوبة إقباله على مولاه بأن يترك الخلق ثم يستغفر الله من تقصيره الذي هو فيه ومن الجهل بالنعمة وترك الشكر فعند ذلك يغفر له ويكون عنده مأواه ثم التنقل إلى الانفراد ثم الثبات ثم البيان ثم الفكر ثم المعرفة ثم المناجاة ثم المصافاة ثم الموالاة ثم محادثة السر وهو الخلة ولا يستقر هذا في قلب عبد حتى يكون العلم غذاءه والذكر قوامه والرضا زاده والتوكل صاحبه ثم ينظر الله إليه فيرفعه إلى العرش فيكون مقامه مقام حملة العرش وسئل أيضاً عن قوله صلى الله عليه وسلم التائب حبيب الله فقال إنما يكون حبيباً إذا كان فيه جميع ما ذكر في قوله تعالى {التائبون العابدون} الآية وقال الحبيب هو الذي لا يدخل فيما يكرهه حبيبه
والمقصود إِنَّ لِلتَّوْبَةِ ثَمَرَتَيْنِ {إِحْدَاهُمَا} تَكْفِيرُ السَّيِّئَاتِ حَتَّى يَصِيرَ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ وَالثَّانِيَةُ نَيْلُ الدرجات حتى يصير حبيباً وَلِلتَّكْفِيرِ أَيْضًا دَرَجَاتٌ فَبَعْضُهُ مَحْوٌ لِأَصْلِ الذَّنْبِ بِالْكُلِّيَّةِ وَبَعْضُهُ تَخْفِيفٌ لَهُ وَيَتَفَاوَتُ ذَلِكَ بِتَفَاوُتِ دَرَجَاتِ التَّوْبَةِ فَالِاسْتِغْفَارُ بِالْقَلْبِ وَالتَّدَارُكُ بِالْحَسَنَاتِ وَإِنْ خلا عن حل عقدة الإصرار من أوائل الدرجات فَلَيْسَ يَخْلُو عَنِ الْفَائِدَةِ أَصْلًا فَلَا يَنْبَغِي أن تظن أن وجودها كعدمها بل عرف أهل المشاهدة وأرباب القلوب معرفة لا ريب فيها أن قول الله تعالى {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره} صدق وأنه لا تخلو ذرة من الخير عَنْ أَثَرٍ كَمَا لَا تَخْلُو شُعَيْرَةٌ تُطْرَحُ في الميزان عن أثر ولو خلت الشعيرة الأولى عن أثر لكانت الثانية مثلها ولكان لا يرجح الميزان بأحمال الذرات وذلك بالضرورة محال بل ميزان الحسنات يرجح بذرات الخير إلى أن يثقل فترفع كفة السيئات فَإِيَّاكَ أَنْ تَسْتَصْغِرَ ذَرَّاتِ الطَّاعَاتِ فَلَا تَأْتِيَهَا وذرات المعاصي فلا تنفيها كالمرأة الخرقاء تكسل عن الغزل تعللاً بأنها لا تقدر في كل ساعة إلا على خيط واحد وتقول أي غني يحصل بخيط وما وقع ذلك في الثياب ولا تدري المعتوهة أن ثياب الدنيا اجتمعت خيطاً خيطاً وأن أجسام العالم مع اتساع أقطاره اجتمعت ذرة فإذن التَّضَرُّعَ وَالِاسْتِغْفَارَ بِالْقَلْبِ حَسَنَةٌ لَا تَضِيعُ عِنْدَ اللَّهِ أَصْلًا بَلْ أَقُولُ الِاسْتِغْفَارُ بِاللِّسَانِ أَيْضًا حَسَنَةٌ إِذْ حَرَكَةُ اللِّسَانِ بِهَا عَنْ غَفْلَةٍ خير من حركة اللسان في تلك الساعة بغيبة مسلم أو فضول كلام بل هو خير من السكوت عنه فيظهر فضله بالإضافة إلى السكوت عنه وإنما يكون نقصاناً بالإضافة إلى عمل القلب ولذلك قال بعضهم لشيخه أبي عثمان المغربي إن لساني في بعض الأحوال يجري بالذكر والقرآن وقلبي غافل فقال اشكر الله إذ استعمل جارحة من جوارحك في الخير وعوده الذكر ولم يستعمله في الشر ولم يعوده الفضول وما ذكره حق فإن تعود الجوارح للخير حتى يصير لها ذلك كالطبع يدفع جملة من المعاصي فمن تعود لسانه الاستغفار إذا سمع من غيره كذباً سبق لسانه إلى ما تعود فقال أستغفر الله ومن تعود الفضول سبق لسانه إلى قول ما أحمقك وما أقبح كذبك ومن تعود الاستعاذة إذا حدث بظهور مبادىء الشر من شرير قال بحكم سبق اللسان نعوذ بالله وإذا تعود الفضول قال لعنه الله فيعصي في إحدى الكلمتين ويسلم في الأخرى وسلامته أثر اعتياد لسانه الخير وهو من جملة معاني قوله تعالى {إن الله لا يضيع أجر المحسنين} ومعاني قوله تعالى {وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه}

الصفحة 48