كتاب التفسير والمفسرون (اسم الجزء: 1)

بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هاذا غَافِلِينَ * أَوْ تقولوا إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ المبطلون} [الأعراف: 172-173] ..
وقد ظنّ بعض مَن لا بصيرة له ولا فطنة عنده، أن تأويل هذه الآية: أن الله استخرج من ظهر آدم جميع ذُرِّيته وهم فى خلق الذَّر، فقررهم بمعرفته، وأشهدهم على أنفسهم. وهذا التأويل مع أن العقل يبطله ويحيله، مما يشهد ظاهر القرآن بخلافه، لأن الله تعالى قال: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بنيءَادَمَ} ، ولم يقل: من ظهره. وقال: {ذُرِّيَّتَهُمْ} ، ولم يقل: ذُرِّيته. ثم أخبر تعالى بأنه فعل ذلك لئلا يقول إنهم كانوا عن هذا غافلين. أو يعتذروا بشرك آبائهم، وأنهم نشئوا على دينهم وسُنَّتهم، وهذا يقتضى أن الآية لم تتناول ولد آدم لصلبه، وأنها تناولت من كان له آباء مشركون، وهذا يدل على اختصاصها ببعض ولد آدم، فهذه شهادة الظاهر ببطلان تأويله. فأما شهادة العقل؛ فمن حيث لا تخلو هذه الذُرِّية التى استُخْرِجت من ظهر آدم فخوطبت وقُرِرت من أن تكون كاملة العقول مستوفية لشروط التكليف، أو لا تكون كاملة العقول مستوفية لشروط التكليف، فإن كانت بالصفة الأولى وجب أن يذكر هؤلاء بعد خلقهم وإنشائهم وإكمال عقولهم ما كانوا عليه فى تلك الحال، وما قُرِروا به واستُشْهِدوا عليه، لأن العاقل لا ينسى ما يجرى هذا المجرى وإن بَعُدَ العهد وطال الزمان، ولهذا لا يجوز أن يتصرف أحدنا فى بلد من البلدان وهو عاقل كامل، فينسى مع بُعْد العهد جميع تصرفه المتقدم وسائر أحواله، وليس أيضاً لتخلل الموت بين الحالتين تأثير، لأنه لو كان تخلل الموت يزيل الذِكْر، لكان تخلل النوم، والسُكر، والجنون، والإغماء من أحوال العقلاء يزيل ذِكْرهم لما مضى من أحوالهم، لأن سائر ما عددناه مما ينفى العلوم يجرى مجرى الموت فى هذا. وليس لهم أن يقولوا: إذا جاز فى العاقل الكامل أن ينسى ما كان عليه فى حال الطفولية جاز ما ذكرناه، وذلك إنما أوجبنا ذكرالعقلاء لما ادَّعوه إذا كملت عقولهم، من حيث يجرى عليهم وهم كاملو العقول، ولو كانوا بصفة الأطفال فى تلك الحال لم نوجب عليهم ما أوجبناه. على أن تجويز النسيان عليهم ينقض الغرض فى الآية، وذلك أن الله تعالى أخبرنا بأنه إنما قررهم وأشهدهم، لئلا يدَّعوا يوم القيامة الغفلة وسقوط الحُجَّة عنهم، فإذا جاز نسيانهم له، عاد الأمر إلى سقوط
الحُجَّة وزوالها، وإن كانوا على الصفة الثانية من فقد العقل وشرائط التكليف، قبح خطابهم، وتقريرهم، وإشهادهم، وصار ذلك عبثاً قبيحاً. فإن قيل: قد أبطلتم قول مخالفيكم، فما تأويلها الصحيح عندكم؟. قلنا: فى الآية وجهان، أحدهما: أن يكون تعالى إنما عَنِىَ بها جماعة من ذُرِّية بنى آدم، خلقهم، وبلَّغهم، وأكمل

الصفحة 291