كتاب موقف ابن تيمية من الأشاعرة (اسم الجزء: 3)

وشيخ الإسلام وهو يشرح هذين البرهانين لا يفوته أن يُذكِّر بالفرق الواضح بين منهج المتكلمين ومنهج القرآن في ذلك. فالمتكلمون قصدوا تقرير توحيد الربوبية فقط لظنهم أنه غاية التوحيد الذي دعت إليه الرسل. وهذا منهج قاصر، لأن القرآن إنما جاء بالدعوة إلى توحيد الألوهية، لأنه الغاية المقصودة، أما توحيد الربوبية فإن المشركين كانوا مقرين به كما هو معروف، يقول شيخ الإسلام: " ومقصود القرآن توحيد الألوهية، وهو مستلزم لما ذكروه من غير عكس، ولهذا قال: "لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا" [الأنبياء: 22] فلم يقل: لو كان فيهما إلهان، بل المقدر آلهة غير إلإله المعلوم أنه إله، فإنه لم ينازع أحد في أن الله إله حق، وإنما نازعوا هل يتخذ كره إلها مع كونه مملوكا له ... " (1) .
وقد سبق- قبل قليل- الإشارة إلى هذين اللازميين أو البرهانين الذين يلزمان على تقدير وجود ربين خالقين، وهذان اللازمان الباطلان هما: اللازم الأول: ما أشار إليه توله تعالى: "إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ" [المؤمنون: 91] يقول شيخ الإسلام: "أما اللازم الأول- وهو ذهاب كل إله بما خلق- فهذا لازم، سواء فرضا متماثلين في القدرة أو متفاضلين فيها، وإن كان كل من التقديرين ممتنعا، لكن بطلان هذا اللازم مما يدل على امتناع كل منهما؛ وذلك لأنه قد تبين أنه يمتنع أن يكون المفعول الواحد فعلا لكل منهما على سبيل الاستقلال، ويمتنع أيضا التعاون، بحيث لا يصير أحدهما قادرا إلا إذا أعانه الآخر، ولا يصير فاعلا إلا إذا [أعانه] الآخر، ويبين ذلك أن ذلك ممتنع لذاته، بل لابد أن يكون أحدهما قادرا على الفعل، يفعل بإرادته دون معاونة الآخر، وإذا كان كذلك وجب أن يتميز مفعوله عن مفعول الآخر، وأن يذهب بمفعوله، لأنه لا يجب اختلاط المفعولين إلا إذا احتاج أحد الفاعلين إلى الآخر، كالحاملين للخشبة، لا يقدر أحدهما على حملها إلا بمعاونة الآخر، فلا يتميز أثره في الخشبة عن أثر الآخر.
__________
(1) درء التعارض، (9/369-370) .

الصفحة 1026