38…الهجرة يتربص بالآخر الدوائر، ويترقب الفرصة المؤاتية للقفز عليه والنيل منه وقهره وأخذ ما في يده من مال وخير وبسط سلطانه عليه، وإن رابة الدين والنسب بين كل منهما قد فشلت كلياً في أن توفر لأي منهما الوحدة والتآلف اللهم إلا في بعض الظروف النادرة التي كانت تفرضها التقاليد والمصالح القبلية والعشائرية.
ولذلك فقد رأينا مكة تختلف في نسق نظامها السكني عن يثرب حيث كان سكانها يثرب مختلفين إلى عرب ويهود، متنازعين ويتآمر بعضهم على بعض، ويميلون إلى إقامة الحصون لحماية النفس والأهل والمال من الغارات المحلية المفاجئة، حتى روى البعض بأن حصون اليهود وحدها كانت تسعة وخمسين بينما كان لبطن واحد من بطون العرب تسعة عشر حصناً (1).
ولم يكن شيء من هذا ظاهراً في مكة على الأقل مثل هذا الظهور.
اليهود والصفات القبلية:
ولقد كان معروفاً بأن اليهود سبقوا عرب الجزيرة بميلهم إلى الإستيطان والإستقرار، وإلى الأخذ بخط وافر من مظاهر التمدن الذي تغيب فيه إلى حد بعيد العادات والتقاليد القبلية، وتتوفر له صفة الأمة الموحدة والمجتمعة.
ولكن يهود يثرب لم يمض عليهم وقت طويل حتى عادوا إلى ألفة الخصال القبلية والعادات البدوية وتشربوا صفات الأعراب واندمجوا في مجتمعاتهم وألفوا عقلياتهم. ولذلك فقد رأيناهم بعد لأي ينقسمون إلى قبائل والقبائل إلى بطون. ورأينا قبائلهم وبطونهم تترابط في حدود التقاليد والعادات العربية، ويستغرقون في كل ما استغرق فيه…
__________
(1) مكة والمدينة لأحمد الشريف / 309.