كتاب مجتمع المدينة قبل الهجرة وبعدها

64…المجتمع المتفجر الذي تهيمن فيه شرعة الغاب وأنظمة الحيتان حيث يأكل منهم القوي الضعيف، ينقلب إلى ذات أناني حريص شديد الحذر كثير الخوف سيء الظن بما حوله فيلتمس بسبب ذلك أي عرف أو تقليد يحميه ويحفظ كرامته وحريته ويرعى مصالحه الخاصة والعامة.
والعصبية القبلية هي وحدها في هذا المحيط المتأجج التي تمكنه من حفظ التوازن بين البطون والقبائل التي يتألف منها المجتمع العربي، وهي وحدها التي تشكل عامل دفع الناس بعضهم عن بعض، وأداة صون حقوقهم وأموالهم وكراماتهم إلى حد ما، وإن كانت لا تضمن في شكل من الأشكال تكوين مجتمع موحد المنطلقات والأهداف والوسائل، موحد الآمال والمصائر تنصهر فيه مصالح الفرد بمصالح المجموع.
ويبقى المجموع عيناً ساهرة تحمي كل فرد وكل مصالحه.
ولهذا فإنا نستطيع القول بأنه قد كان لهذه العصبية مظهران:
أحدهما إيجابي وهو هذا الذي ذكرناه، وهو أنها ضمنت إلى حد ما حجب القبائل والبطون بعضها عن بعض، ومنح كلٍ منها بعض الشيء شكلاً من أشكال السلطة والحماية وإن كان فيه كل العفوية والكيفية والإرتجال، والثاني سلبي لما كان يترتب عليه من بروز التعددية وكثرة الرؤوس والأطراف، وبالتالي حتمية التنازع والتخاصم الدائمين التي تركت آثارها المشهودة فيهم على مدى تقلب التاريخ في القديم والحديث.
وعلى كل حال فقد كان مجتمع المدينة متأثراً إلى حد عميق بظروف بيئته والأخلاق والطباع التي رشحت عنها، فكان من المتعذر عليه في هذه الأجو اء أن يكون مجتمعاً مستقراً آمناً.

الصفحة 64