كتاب الاتجاهات الفقهية عند أصحاب الحديث في القرن الثالث الهجري

بِهِ "». وَقَالَ: قَالَ مَعْمَرٌ: «أَهْلُ العِلْمِ كَانَ الْأَوَّلُ فَالْأَوَّلُ أَعْلَمَ , وَهَؤُلَاءِ الْآخِرُ فَالْآخِرُ عِنْدَهُمْ أَعْلَمُ» , وَلَقَدْ قَالَ ابْنُ المُبَارَكِ: «كُنْتُ أُصَلِّي إِلَى جَنْبِ النُّعْمَانِ بْنِ ثَابِتٍ فَرَفَعْتُ يَدَيَّ، فَقَالَ: " [مَا] خَشِيتَ أَنْ تَطِيرَ؟ " فَقُلْتُ: " إِنْ لَمْ أَطِرْ فِي الْأُولَى لَمْ أَطِرْ فِي الثَّانِيَةِ " قَالَ وَكِيعٌ: " رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى ابْنِ المُبَارَكِ كَانَ حَاضِرَ الجَوَابِ "» (ص ١٥ - ١٧).
وقد ذكر مخالفوه أن إبراهيم النخعي قال في حديث رفع اليدين، الذِي رَوَاهُ وَائِلُ بْنُ حُجْرٍ: «لَعَلَّهُ كَانَ فَعَلَهُ مَرَّةً»، ورد البخاري عليه، بأن هذا ظن من إبراهيم، ومعاينة وائل أكثر من حسبان غيره، ثم روى ما يفيد أن وائلاً رأى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه غير مرة، وأن الرفع كان من عادتهم (ص ١٩) (١).
وقد أثبتنا في بداية هذه المسألة، ملاحظتنا عن حدة البخاري في مناقشته، واتهامه خصومه بالبدعة، واستبعدنا أن يكون المقصود بذلك هو أبا حنيفة، لأنه لم يكن وحده في القول بعدم رفع اليدين، وإنما كان معه بعض من يعتز بهم المحدثون، ويقدرونهم قدرهم في معرفة الآثار كالثوري ووكيع.
وقد جاء فيما تقدم أن البخاري، يرمي خصومه بالتقليد للرؤساء، وهذا دليل على المعاصرة، وقد جاء في كلام البخاري بعد ذلك ما يفسر حدته، بل ما يفسر اختصاص هذه المسألة بتأليف مفرد، وهو أن بعض
---------------
(١) ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيَّ أَنْكَرَ أَنْ يَكُوَن حَدِيثُ وَائِلٍ مُعَارِضًا لِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، لِأَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ أَقْدَمُ صُحْبَةً، وَأَفْهَمُ لِأَفْعَالِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ وَائِلٍ، وَقَدْ «كَانَ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - يُحِبُّ أَنْ يَلِيَهُ المُهَاجِرُونَ لِيَحْفَظُوا عَنْهُ»، كَمَا «كَانَ يُحِبُّ أَنْ يَلِيَهُ أُولُو الأَحْلَامِ والنُّهَى». رواهما الطحاوي بإسناده، (وانظر " معاني الآثار ": ٢/ ١٣١، ١٣٤).

الصفحة 587