كتاب الاتجاهات الفقهية عند أصحاب الحديث في القرن الثالث الهجري

فَلِلْآخَرِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا» (١).
ولنا أن نتساءل: إذا كان أهل الرأي لم ينفردوا بإجازة الحيل، وإذا كانت الحيل التي أثرت عنهم مما لا حرج في استعماله فلم اختصوا وحدهم بالنقد؟ ولم شنع عليهم خصومهم بها؟
يبدو أن بعض المغرضين ممن انتسب إلى المذهب الحنفي قد صنف كتابًا في الحيل الهدامة، قلب فيه الحلال حرامًا، والحرام حلالاً. أو لعل مصنف هذا الكتاب قد وضعه بحسن نية، ليبين المخارج المختلفة، كنوع من أنواع الرياضة العقلية، دون أن يبيحها أو يدعو إلى الأخذ بها فقد قال ابن القيم: «وَالذِينَ ذَكَرُوا الحِيَلَ لَمْ يَقُولُوا إنَّهَا كُلَّهَا جَائِزَةٌ، وَإِنَّمَا أَخْبَرُوا أَنَّ كَذَا حِيلَةٌ وَطَرِيقٌ إلَى كَذَا. ثُمَّ قَدْ تَكُونُ الطَّرِيقُ مُحَرَّمَةً، وَقَدْ تَكُونُ مَكْرُوهَةً، وَقَدْ يُخْتَلَفُ فِيهَا».
ويروي لنا ابن القيم بعض الحيل التي أثارت غضب العلماء، حتى رموا بالكفر مؤلفها أو من يفتي بها. فمن ذلك قولهم: «[الحِيلَةُ فِي فَسْخِ المَرْأَةِ النِّكَاحَ] أَنْ تَرْتَدَّ ثُمَّ تُسْلِمَ ... وَالحِيلَةُ فِي سُقُوطِ الكَفَّارَةِ عَمَّنْ أَرَادَ الوَطْءَ فِي رَمَضَانَ أَنْ يَتَغَدَّى ثُمَّ يَطَأَ بَعْدَ الغَدَاءِ، وَالحِيلَةُ لِمَنْ أَرَادَتْ أَنْ تَفْسَخَ [نِكَاحَ زَوْجِهَا] أَنْ تُمَكِّنَ ابْنَهُ مِنْ الوُقُوعِ عَلَيْهَا».
فهذه الحيل وأمثالها لا يحل لمسلم أن يفتي بها في دين الله تعالى. وقد كَفَّرَ الإمام أحمد وابن المبارك وغيرهما - من استحل الإفتاء بها، «حَتَّى قَالُوا: إنَّ مَنْ أَفْتَى بِهَذِهِ الحِيَلِ فَقَدْ قَلَبَ الْإِسْلَامَ ظَهْرًا لِبَطْنٍ، وَنَقَضَ عُرَى الْإِسْلَامِ عُرْوَةً عُرْوَةً» لأن فيها الاحتيال على إسقاط فرائض الله وإسقاط حقوق المسلمين واستحلال ما حرم الله من الكفر وشهادة الزور والزنا والربا.
ويؤكد ابن القيم أن هذه الحيل وأمثالها لا يجوز نسبتها إلى أحد من
---------------
(١) " إعلام الموقعين ": ٢/ ٢٨٥، ٢٨٦.

الصفحة 623