كتاب طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد

لأنَّه لا يجد خُلُقاً مستقرّاً فيه، فلا يمكنه، مثلاً، أن يجزم بأمانته، أو يضمن ثباته على أمرٍ من الأمور، فيعيش سيئ الظنّ في حقِّ ذاته متردداً في أعماله، لوّاماً نفسه على إهماله شؤونه، شاعراً بفتور همَّته ونقص مروءته، ويبقى طول عمره جاهلاً مورد هذا الخلل، فيتَّهم الخالق، والخالقُ -جلَّ شأنه- لم يُنقصه شيئاً. ويتَّهم تارةً دينه، وتارةً تربيته، وتارةً زمانه، وتارةً قومه، والحقيقة بعيدة عن كلِّ ذلك، وما الحقيقة غير أنّه خُلق حرّاً فأُسر.
أجمع الأخلاقيون على أنَّ المتلبِّس بشائبةٍ من أصول القبائح الخلقية لا يمكنه أن يقطع بسلامة غيره منها، وهذا معنى: "إذا ساءت فِعال المرء ساءت ظنونه". فالمرائي -مثلاً- ليس من شأنه أن يظنَّ البراءة في غيره من شائبة الرياء، إلاّ إذا بَعُدَ تشابه النشأة بينهما بُعداً كبيراً، كأن يكون بينهما مغايرة في الجنس أو الدّين أو تفاوت مهمٌّ في المنزلة كصعلوك وأمير كبير. ومثال ذلك الشرقيّ الخائن، يأمن الإفرنجي في معاملته، ويثق بوزنه وحسبانه، ولا يأمن ويثق بابن جلدته. وكذلك الإفرنجي الخائن قد يأمن الشرقي، ولا يأمن مطلقاً ابن جنسه. وهذا الحكم صادق على عكس القضية أيضاً؛ أي أنَّ الأمين يظنُّ الناس أمناء خصوصاً أشباهه في النشأة، وهذا معنى "الكريم يُخدَع"، وكم يذهل الأمين في نفسه عن اتِّباع حكمة الحزم في إساءة الظنِّ في مواقعه اللازمة.
إذا علمنا أنَّ من طبيعة الاستبداد ألفة الناس بعض الأخلاق الرديئة، وأنَّ منها ما يُضعف الثّقة بالنفس، علمنا سبب قلة أهل العمل وأهل العزائم في

الصفحة 104