كتاب طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد

السّراء، وعلمنا أيضاً حكمة فقد الأُسراء ثقتهم بعضهم ببعض. فينتج من ذلك أنَّ الأُسراء محرومون -طبعاً- من ثمرة الاشتراك في أعمال الحياة، يعيشون مساكين بائسين متواكلين متخاذلين متقاعسين متفاشلين، والعاقل الحكيم لا يلومهم، بل يشفق عليهم، ويلتمس لهم مخرجاً. ويتبع أثر أحكم الحكماء القائل: ربِّ ارحم قومي، فإنهم لا يعلمون"، "اللهم اهدِ قومي، فإنهم لا يعلمون".
وهنا أستوقف المطالع وأستلفته إلى التأمّل في ما هي ثمرة الاشتراك التي يحرمها الأسراء، فأذكره بأنَّ الاشتراك هو أعظم سرٍّ في الكائنات، به قيام كلِّ شيء ما عدا الله وحده. به قيام الأجرام السماوية؛ به قيام كلِّ حياة؛ به قيام المواليد؛ به قيام الأجناس والأنواع؛ به قيام الأمم والقبائل؛ به قيام العائلات؛ به تعاون الأعضاء. نعم، الاشتراك فيه سرُّ تضاعف القوة بنسبة ناموس التربيع؛ فيه سرُّ الاستمرار على الأعمال التي لا تفي بها أعمار الأفراد. نعم؛ الاشتراك هو السرُّ كلُّ السرّ في نجاح الأمم المتمدنة. به أكملوا ناموس حياتهم القومية، به ضبطوا نظام حكوماتهم، به قاموا بعظائم الأمور، به نالوا كل ما يغبطهم عليه أُسراء الاستبداد الذين منهم العارفون بقدر الاشتراك ويتشوَّقون إليه، ولكن؛ كلٌّ منهم يُبطن لغبن شركائه باتِّكاله عليهم عملاً، واستبداده عليهم رأياً، حتى صار من أمثالهم قولهم: "ما من متَّفقين إلا واحدهما مغلوبٌ للآخر".
ورُبَّ قائلٍ يقول إنَّ سرَّ الاشتراك ليس بالأمر الخفيّ، وقد طالما كتب

الصفحة 105