كتاب طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد

وما أظلم من يؤاخذ الأسراء على عدم اعتنائهم بلوازم الحياة. فالنظافة مثلاً: لماذا يهتم بها الأسير؟ هل لأجل صحَّته وهو في مرضٍ مستمرّ؟ أم لأجل لذَّته وهو المتألم كيفما تقلَّب جسمه أو نظره؟ أم لأجل ذوق من يجالس أو يؤاكل، وهو من عفَّت نفسه صحبة الحياة؟
ولا يظننَّ المطالع أنَّ حالة أغنياء الأسراء هي أقلُّ شراً من هذا؛ كلا، بل هم أشقى وأقلّ عافيةً، وأقصر عمراً من هذا، إذا نقصتهم بعض المنغِّصات، تزيد فيهم مشاق التظاهر بالراحة والرفاه والعزّة والمنعة، تظاهراً إن صحَّ قليله فكثيره الكاذب حملٌ ثقيل على عواتقهم كالسكران يتصاحى فيُبتلى بالصداع، أو كالعاهرة البائسة تتضاحك لترضي الزاني.
حياة الأسير تشبه حياة النائم المزعوج بالأحلام، فهي حياة لا روح فيها، حياة وظيفتها تمثيل مندرسات الجسم فقط، ولا علاقة لها بحفظ المزايا البشرية، وبناءً على هذا؛ كان فاقد الحرية لا أنانية له لأنه ميتٌ بالنسبة لنفسه، حيٌّ بالنسبة لغيره؛ كأنَّه لا شيء في ذاته، إنَّما هو شيء بالإضافة. ومن كان وجوده في الوجود بهذه الصورة وهي الفناء في المستبدين، حقَّ له أن لا يشعر بوظيفة شخصية فضلاً عن وظيفة اجتماعية. ولولا أنْ ليس في الكون شيء غير تابع لنظام حتى الجماد، حتى فلتات الطبيعة والصُّدف التي هي مسببات لأسباب نادرة، لحكمنا بأنَّ معيشة الأسراء هي محض فوضى، لا شبه فوضى.
على أنَّ التدقيق العميق، يفيدنا بأنَّ للأسراء، قوانين غريبة في مقاومة

الصفحة 126