كتاب طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد

الفناء يصعب ضبطها وتعريفها، إنما الأسير يرضعها مع لبن أمه، ويتربَى عليها، وقد يبدع فيها بسائق الحاجة، ويكون منهم الحاذق فيها علماً، الماهر في تطبيقها عملاً، هو الموفَّق في ميدان حرب الحياة مع الذل، كالهنود واليهود. والعاجز عنها، إمّا جاهل هذا القانون أو العاجز فطرةً عن اتِّباعه كالعرب مثلاً، فلا يخرج عن كونه كرة يلعب بها صبيان الاستبداد، تارةً يضربون بها الأرض أو الحيطان، وأما إذا كان عجزه كما يقال عن عرق هاشمي، أي عن شيءٍ من كرامة نفس أو قوة إحساس أو جسارة جنان، فيكون كالحجارة تتكسَّر ولا تلين.
قوانين حياة الأسير هي مقتضيات الشؤون المحيطة به، التي تضطره لأن يطبق إحساساته عليها، ويدبِّر نفسه على موجبها، وذلك نحو مقابلة التجبُّر عليه بالتذلل والتّصاغر، وتعديل الشدة عليه بالتلاين والمطاوعة، وإعطاء المطلوب منه بعد قليلٍ من التمنُّع، ولو أنَّ المطلوب هو ابنه لمجزرة الجندية أو ابنته لفراش شيخٍ شرير، والمطالبة في الحقوق بصفة استعطاف كأنَّه طالب صدقة، وكسب المعاش مع شكاية الحاجة، وحِفظ المال بإخفائه عن الأعين، والتعامي عن زلاّت المستبدين، والتصامم عن سماع ما يُهان به، والتظاهر بفقد الحسّ أو تعطيله بالمخدرات القوية كالأفيون والحشيش، وتعطيل العقل بالتّباله وستر العلم بالتجاهل، والارتداء بالتدين والرياء، وتعويد اللسان على الزّلاقة في عبائر التصاغر والتملّق، وعزو كلّ خير إلى فضل المستبدين حتى إذا كان

الصفحة 127