كتاب طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد

فسلَّط الله عليه من يغصبها منه ويأسره. وهذا القسم يعيش بلا جامعة، تحكمه أهواء أهل المدن وقانونه: أن يكون ظالماً أو مظلوماً.
ثمَّ ترقّى قسم من الإنسان إلى التصرُّف إمّا في المادة وهم الصُّناع، وإمَّا في النظريات وهم أهل المعارف والعلوم. وهؤلاء المتصرِّفون هم سكان المدن الذين هم إنْ سجنوا أجسامهم بين الجدران، لكنهم أطلقوا عقولهم في الأكوان، وهم قد توسَّعوا في الرِّزق كما توسَّعوا في الحاجات، ولكنَّ أكثرهم لم يهتدوا حتى الآن للطريق المثلى في سياسة الجمعيات الكبرى. وهذا هو سبب تنوُّع أشكال الحكومات وعدم استقرار أمَّةٍ على شكل مُرضٍ عام. إنَّما كلُّ الأمم في تقلُّباتٍ سياسية على سبيل التجريب، وبحسب تغلُّب أحزاب الاجتهاد أو رجال الاستبداد.
وتقرير شكل الحكومة هو أعظم وأقدم مشكلة في البشر، وهو المعترك الأكبر لأفكار الباحثين، والميدان الذي قلَّ في البشر من لا يجول فيه على فيل من الفكر، أو على جملٍ من الجهل، أو على فرسٍ من الفراسة، أو على حمارٍ من الحُمْق، حتى جاء الزمن الأخير فجال فيه إنسان الغرب جولة المغوار الممتطي في التدقيق مراكب البخار. فقرر بعض قواعد أساسية في هذا الباب تضافر عليها العقل والتجريب، وحصحص فيها الحقّ اليقين، فصارت تُعَدُّ من المقررات الاجتماعية عند الأمم المترقية، ولا يعارض ذلك كون الأمم لم تزل أيضاً منقسمة إلى أحزاب سياسية يختلفون شيعاً؛ لأنَّ اختلافهم هو في وجوه تطبيق تلك القواعد وفروعها على أحوالهم الخصوصية.

الصفحة 166