كتاب طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد

ومن أكبر مضارّ الأصلاء أنهم ينهمكون أثناء المغالبة على إظهار الأبَّهة والعظمة، سترهبون أعين الناس ويسحرون عقولهم ويتكبّرون عليهم. ثمَّ إذا غلب غالبهم واستبدَّ بالأمر لا يتركها الباقون لألفتهم لذتها ولمضاهاة المستبدِّ في نظر الناس. والمستبدُّ نفسه لا يحملهم على تركها، بل يدرُّ عليهم المال ويعينهم عليها، ويعطيهم الألقاب والرُّتب وشيئاً من النّفوذ والتسلُّط على الناس ليتلهّوا بذلك عن مقاومة استبداده، ولأجل أن يألفوها مديداً، فتفسد أخلاقهم، فينفر منهم الناس، ولا يبقى لهم ملجأ غير بابه، فيصيرون أعواناً له بعد أن كانوا أضداداً.
ويستعمل المستبدُّ أيضاً مع الأصلاء سياسة الشدّ والرّخاء، والمنع والإعطاء، والالتفات والإغضاء كي لا يبطروا، وسياسة إلقاء الفساد وإثارة الشحناء فيما بينهم كي لا يتفقوا عليه، وتارة يعاقب عقاباً شديداً باسم العدالة إرضاءً للعوام، وأخرى يقرنهم بأفراد كانوا يقبِّلون أذيالهم استكباراً فيجعلهم سادة عليهم يفركون آذانهم استحقاراً، يقصد بذلك كسر شوكتهم أمام إمام الناس وعصر أنوفهم أمام عظمتهم. والحاصل أنَّ المستبدّ يذلل الأصلاء بكلِّ وسيلة حتى يجعلهم مترامين بين رجليه كي يتَّخذهم لجاماً لتذليل الرعية، ويستعمل عين هذه السياسة مع العلماء ورؤساء الأديان الذين متى شمَّ من أحدهم رائحة الغرور بعقله أو علمه ينكل به أو يستبدله بالأحمق الجاهل إيقاظاً له ولأمثاله من كلِّ ظانٍّ من أن إدارة الظلم محتاجة إلى شيء من العقل أو الاقتدار فوق مشيئة المستبدِّ. وبهذه السياسة ونحوها يخلو الجوّ فيعصف

الصفحة 67