كتاب أسرار البلاغة

ثم تجعل دَمَ الهزَبْرِ الذي هو أقوى الجنس، خضابَ يده، لأنّ حملك له عليه في الشَّبه دليل على أنه دونه، وقولك بَعْدُ دمُ الهزبر من الأسود خضابه، دليل على أنه فوقها، وكذلك محالٌ أن تشبَّهه بالموت المعروف، ثم تجعله يخافه، وترتعد منه أكتافه، وكذا قوله:
سَحَابٌ عَدَاني سَيْلُه وهو مُسبلٌ ... وبَحْرٌ عَدَاني فيْضُه وَهْو مُفْعَمُ
وبَدرٌ أضاءَ الأَرضَ شرقاً ومغرِباً ... ومَوْضِعُ رَحْلِي منه أسْوَدُ مُظلمُ
إن رجعت فيه إلى التشبيه الساذَج فقلت هو كالبدر، ثم جئت تقول أضاء الأَرض شرقاً ومغرباً ومَوْضِع رحلي مظلمٌ لم يضيء به، كنتَ كأنك تجعل البدر المعروف يُلبس الأرضَ الضياءَ ويمنعه رحلَك، وذلك مُحَالٌ، وإنما أردت أن تُثبت من الممدوح بدراً مفرداً له هذه الخاصية العجيبة التي لم تُعرَف للبدر، وهذا إنما يَتَأتَّى بكلام بعيدٍ من هذا النظم، وهو أن يقال: هل سمعت بأن البَدْر يطلع في أُفُقٍ، ثم يمنع ضوءه موضعاً من المواضع التي هي مُعرَّضة له وكائنة في مقابلته، حتى ترى الأرض الفضاء قد أضاءَت بنوره البيت، فهذا النحو موضوع على تخييلِ أنه زاد في جنس البدر واحدٌ له حُكمٌ وخاصّةٌ لم تُعرَف. وإذا كان الأمر كذلك صار كلامُك موضوعاً لا لإثبات الشبه بينه وبين البدر، ولكن لإثبات الصِّفة في واحد متجدّدٍ حادثٍ من جنس البدر،

الصفحة 330