كتاب أسرار البلاغة

فهذا كله في أصله ومغزاه وحقيقة معناه تشبيهٌ، ولكن كَنَى لك عنه، وخُودِعتَ فيه، وأُتِيتَ به من طريق الخِلابة في مسلك السحر ومذهب التَّخييل، فصار لذلك غريبَ الشكل، بديع الفن، منيعَ الجانب، لا يدينُ لكل أحد، وأَبيَّ العِطْف لا يدين به إلاّ للمُروِّي المجتهد، وإذا حقّقت النظر، فالخصوصُ الذي تراه، والحالةُ التي تراها، تنفي الاشتراك وتأباه، إنما هُما من أجل أنهم جعلوا التشبيه مدلولاً عليه بأمرٍ آخرَ ليس هو من قبيل الظاهر المعروف، بل هو في حدِّ لحن القول والتعمية اللَّذَين يُتعمَّد فيهما إلى إخفاء المقصود حتى يصير المعلومُ اضطراراً، يُعرف امتحاناً واختياراً، كقوله:
مررتُ بباب هِنْدَ فَكَلَّمَتْنِي ... فلا واللَّه ما نَطَقَتْ بحَرْفِ
فكما يوهمك بإتقان اللفظ أنه أراد الكلام، وأن الميم موصولةباللام، كذلك المشبِّه إذا قال سرقن الظباءَ العيونَ، فقد أوهم أن ثَمَّ سرقةً وأنّ العيون منقولةٌ إليها من الظباء، وإن كنت تعلم إذا نظرتَ أنّه يريد أن يقول إن عيونها كعيون الظباء في الحسن والهيئة وفَتْرةِ النظر، وكذلك يوهمك بقوله: إن السحاب لتسْتَحيى، أن السحاب حيٌّ يعرف ويعقل، وأنه يقيس فيضه بفيض كفّ الممدوح فَيَخْزَى ويخجَل. فالاحتفال والصَّنعة في التصويرات التي تروق الساميعن وتَرُوعهم، والتخييلات التي تهزُّ الممدوحين وتُحرّكهم، وتفعل فعلاً شبيهاً بما يقع في نفس النَّاظر إلى التصاوير التي يشكِّلها الحُذَّاق بالتَّخطيط والنقش، أو بالنَّحت

الصفحة 342