كتاب أسرار البلاغة

كلُّ كلمة جُزْتَ بها ما وقعتْ به في وَضْع الواضع إلى ما لم توضع له، من غير أن تستأنف فيها وضعاً، لملاحظةٍ بين ما تُجُوّز بها إليه، وبين أصلها الذي وُضعتْ له فيوضع واضعها، فهي مجاز. ومعنى الملاحظة هو أنها تستند في الجملة إلى غير هذا الذي تريده بها الآن، إلا أنّ هذا الاستنادَ يَقْوَى ويَضْعُف، بَيَانُه ما مضى من أنّك إذا قلت: رأيت أسداً، تريد رجلاً شبيهاً بالأسد، لم يشتبه عليك الأمر في حاجة الثاني إلى الأوّل، إذ لا يُتصَوَّر أن يقع الأسدُ للرجل على هذا المعنى الذي أردته على التشبيه على حدّ المبالغة، وإيهامِ أنّ معنى من الأسدحصل فيه إلا بعدأن تجعل كونَهُ اسماً للسبع إزاء عينيك، فهذا إسنادٌ تعلمه ضرورةً، ولو حاولتَ دَفْعَه عن وَهْمك حاولت محالاً، فمتى عُقِل فرعٌ من غير أصل، ومشبَّهٌ من غير مشبَّه به؟ وكلُّ ما طريقه التشبيه فهذا سبيله أعني: كل اسم جرى على الشيء للاستعارة، فالاستناد فيه قائمٌ ضرورةً. وأما ما عَدا ذلك، فلا يَقْوَى استنادُه هذه القوةَ، حتى لو حاول محاولٌ أن ينكره أمكنه في ظاهر الحال، ولم يلزمه به خروجٌ إلى المحال، وذلك كاليد للنعمة لو تكلَّفَ متكلّفٌ فزعم أنه وضعٌ مستأنَفٌ أو في حُكم لغةٍ مفردٍةٍ، لم يمكن دفعُه إلاً برفقٍ وباعتبارٍ خفيٍّ، وهو ما قدّمتُ من أنّا رأيناهم لا يوقعُون هذه اللفظة على ما ليس بينه وبين هذه الجارحة التباسٌ واختصاصٌ. ودليل آخر وهو أن اليد لا تكاد تقع للنعمة إلا وفي
الكلام إشارةُ إلى مَصْدَر تلك النعمة، وإلى المُولِي، لها، ولا تصلح حيث تراد النعمة مجرَّدةً من إضافةٍ لها إلى المُنعِم أو تلويحٌ به. بيان ذلك أنك تقول اتسعت النعمةُ في البلد، ولا تقول اتّسعت اليد في البلد، وتقول: أَقتَني نعمةً، ولا تقول اقتني يداً، وأمثال ذلك تكثر إذا تأمّلت وإنما يقال: جلَّت يدُه عندي، وكُثرت أياديه لدَيَّ، فتعلم أن الأصل صنائعُ يده وفوائدُه الصادرةُ عن يده وآثارِ يده، ومحالٌ أن تكون اليد اسماً للنعمة هكذا على الإطلاق، ثم لا تقع موقع النعمة، لو جاز ذلك، لجاز أن يكون المترجم للنعمة باسم لها في لغة أخرى، واضعاً اسمَها من تلك اللغة في مواضعَ لا تقع النعمة فيها من لغة العرب، وذلك محالٌ. ونظير هذا قولهم في صفة راعي الإبل إّن له عليه إصبْعاً، أي أثراً َحسَناً، وأنشدوا: كلام إشارةُ إلى مَصْدَر تلك النعمة، وإلى المُولِي، لها، ولا تصلح حيث تراد النعمة مجرَّدةً من إضافةٍ لها إلى المُنعِم أو تلويحٌ به. بيان ذلك أنك تقول اتسعت النعمةُ في البلد، ولا تقول

الصفحة 352