كتاب أسرار البلاغة

وأقلُّ ما كان ينبغي أن تعرفه الطائفةُ الأولى، وهم المنكرون للمجاز، أن التنزيل كما لم يقلب اللغة في أوضاعها المفردة عن أصولها، ولم يُخرج الألفاظ عن دلالتها، وأنَّ شيئاً من ذلك إن زيد إليه ما لم يكن قبل الشرع يدلُّ عليه، أو ضُمِّن ما لم يتضمّنه أُتبعْ ببيانٍ من عند النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك كبيانه للصلاة والحج والزكاة والصوم، كذلك لم يقضِ بتبديل عاداتِ أهلها، ولم ينقلهم عن أساليبهم وطرقهم، ولم يمنعهم ما يتعارفونه من التشبيه والتمثيل والحذف، والاتساع، وكذلك كان من حق الطائفة الأخرى أن تعلم، أنه عزّ وجلّ لم يرضَ لنظم كتابه الذي سمّاه هُدىً وشفاء، ونوراً وضياءً، وحياةً تحيا بها القلوب، ورُوحاً تنشرح عنه الصدور ما هو عند القوم الذين خوطبوا به خلافُ البيان، وفي حدّ الإغلاق والبُعد من التبيان، وأنه تعالى لم يكن ليُعْجِزَ بكتابه من طريق الإلباس والتعمية، كما يتعاطاه المُلغز من الشعراء والمُحاجي من الناس، كيف وقد وصفه بأنه عربيٌّ مبينٌ. هذا وليس التعسُّف الذي يرتكبه بعض من يجهل التأويلَ من جنس ما يقصده أولو الألغاز وأصحاب الأحاجي، بل هو شيء يخرج عن كلِّ طريق، ويُباين كلَّ مذهب، وإنما هو سوء نظر منهم، ووضعٌ للشيء في غيرِ موضعه، وإخلالٌ بالشريطة، وخروجٌٌ عن القانون، وتوهُّمُ أن المعنى إذا دار في نفوسهم، وعُقِل من تفسيرهم، فقد فُهِم من لفظ المفسَّر، وحتى كأنّ الألفاظ تنقلب عن سجيّتها، وتزول عن موضوعها، فتحتمل ما ليس من شأنها أن تحتمله، وتؤدِّي ما لا يوجب حكمها أن تؤدِّيَهُ،

الصفحة 394