كتاب أسرار البلاغة

فإن قلت: فإن اللغة رسمت أن يكون فَعَلَ لإثبات الفعل للشيء كما زعمتَ، ولكنّا إذا قلنا: فعل الربيع الوشيَ أو وَشَّى الربيع، فإننا نريد بذلك معنًى معقولاً، وهو أن الربيع سببٌ في كون الأنوار التي تُشبه الوَشْي،، فقد نقلنا الفعل عن حُكمٍ معقولٍ وُضع له، إلى حكم آخر معقولٍ شبيهٍ بذلك الحكم، فصار ذلك كنقل الأسد عن السبع إلى الرجل الشبيه به في الشجاعة، أفتقول: الأسد على الرجل مجازٌمن حيث المعقول، لا من حيث اللغة، كما قلت في صيغة: فَعَلَ إذا أُسنِدت إلى ما لا يصحّ أن يكون له فِعْلٌ إنّها مجازٌ من جهة العقل، لا من جهة اللغة. فالجواب أن بينهما فرقاً، وإن ظننتهما متساويين، وذلك أن فَعَلَ موضوع لإثبات الفعل للشيء على الإطلاق، والحكم في بيان من يستحق هذا الإثبات وتعيينُه إلى العقل، وأما الأسد فموضوع للسبع قطعاً، واللغة هي التي عيّنت المستحقَّ له، وبرَسْمها وحُكمِها ثبت هذا الاستحقاق والاختصاص، ولولاَ نَصُّها لم
يُتصوَّر أن يكون هذا السَّبع بهذا الاسم أوْلَى من غيره، فأمّا استحقاق الحيّ القادر أن يُثبَت الفعل له واختصاصه بهذا الإثبات دون كل شيء سواه، فبفرض العقل ونصِّهِ لا باللغة، فقد نقلتَ الأسد عن شيء هو أصل فيه باللغة لا بالعقل، وأمَّا فَعَلَ فلم تنقله عن الموضع الذي وضعته اللغة فيه، لأنه كما مضى، موضوع لإثبات الفعل للشيء في زمان ماضٍ، وهو في قولك: فَعَلَ الربيع باقٍ على هذه الحقيقة غير زائلٍ عنها، ولن يستحقَّ اللفظُ الوصفَ بأنه مجازٌ، حتى يجريَ على شيء لم يوضع له في الأصل، وإثبات الفعل لغير مستحقِّه، ولما ليس بفاعل على الحقيقة، لا يُخرِج فَعَلَ عن أصله، ولا يجعله جارياً على شيء لم يوضع له، لأن الذي وُضعَ له فَعَلَ هو إثبات الفعل للشيء فقط، فأمّا وَصْف ذلك الشيء الذي يقع هذا الإثبات له، فخارجٌ عن دلالته، وغير داخلٍ في الموضع اللغويّ، بل لا يجوز دخولُه فيه، لما قدّمتُ من استحالة أن يقال: إنّ اللغة هي التي أوجبت أن يُخْتصّ الفعل بالحيّ القادر دون الجماد، وما في ذلك من الفساد العظيم، فاعرفه فرقاً واضحاً، وبرهاناً قاطعاً. وهاهنا نكتة جامعةٌ، وهي أن المجاز في مقابلة الحقيقة، فما كان طريقاً في أحدِهما من لغة أو عقلٍ، فهو طريقٌ في الآخر، ولستَ تشكُّ في أنّ طريقَ كونِ الأسد حقيقةً في السبع، اللُّغةُ دون العقل، وإذا كانت اللغة طريقاً للحقيقة فيه، وجب أن تكون هي أيضاً الطريقَ في كونه مجازاً في المُشبَّه بالسَّبُع، إذا أنت أجْريت اسم الأسد عليه فقلت: رأيت أسداً، تريد رجلاً لا تميّزه عن الأسد في بسالته وإقدامه وبطشه، وكذلك إذا علمتَ أن طريق الحقيقة في إثبات الفعل للشيء هو العقل، فينبغي أن تعلم أنه أيضاً الطريقُ إلى المجاز فيه، فكما أن العقل هو الذي دلَّك حين قلت: فَعَلَ الحيُّ القادرُ، أنك لم تتجوّز، وأنك واضعٌ قَدَمك على مَحْضِ الحقيقة، كذلك ينبغي أن يكون هو الدالَّ والمقتضَى، إذا قلت: فَعَلَ الربيع، أنك قد تجوّزت وزُلْتَ عن الحقيقة فاعرفه. فإن قال قائل: كان سياق هذا الكلام وتقريرُه يقتضي أنّ طريقَ المجاز كلِّه العقلُ، وأنْ لا حظَّ للُّغة فيه، وذاك أنّا لا نُجري اسم الأسد على المشبَّه بالأسد، حتى ندَّعيَ له الأسدية، وحتى نُوهِم أنه حين أعطاك من البسالة والبأس والبطش، ما تجدُهُ عند الأَسد، صار كأنه واحدٌ من الأسود قد استبدلَ بصورته صورة الإنسان، وقد قدَّمت أنت فيما مضى ما بَيَّنَ أنك لا تتجوّز في إجراء اسم المشبَّه به على المشبَّه، حتى تُخيِّل إلى نفسك أنه هو بعينه فإذا كان الأمر كذلك فأنت في قولك: رأيتُ أسداً، متجوّزٌ من طريق المعقول، كما أنك كذلك في فعل الربيع، وإذا كان كذلك، عاد الحديثُ إلى أنّ المجاز فيهما جميعاً عقليٌّ، فكيفَ قسَّمته قِسمين لغويّ وعقلي. فالجواب أنّ هذا الذي زعمتَ - من أنك لا تُجري اسم المشبَّه به على المشبَّه حتى تدَّعيَ أنه قد صار من ذلك الجنس، نحو أن تجعل الرجل كأنه في حقيقة الأسد صحيح كما زعمت، لا يدفعه أحدٌ، كيف السبيل إلى دفعه، وعليه المعوَّل في كونه التشبيه على حدِّ المبالغة، وهو الفرق بين الاستعارة وبين التشبيه المُرْسَل؟ إلاّ أن هاهنا نكتةً أخرى قد أغفلتَها، وهي أنّ تجوُّزك هذا الذي طريقه العقْلُ، يُفضي بك إلى أن تُجري الاسم على شيء لم يوضع له في اللغة على كل حال، فتجُوزَ بالاسم على الجملة الشيءَ الذي وُضع له، فمن هاهنا جعلنا اللغة طريقاً فيه. فإن قلت: لا أُسلِّم أنه جرى على شيءٍ لم يوضع له في اللغة، لأنك إذا قلت: لا تُجريه على الرجل حتى تدّعيَ له أنه في معنى الأسد، لم تكن قد أجريته على ما لم يوضع له، وإنما كان يكون جارياً على غير ما وُضع له، أَنْ لو كنت أجريته على شيءٍ لتُفيدَ به معنًى غير الأسدية، وذلك ما لا يُعقَل، لأنك لا تُفيد بالأسد في التشبيه أنه رجلٌ مثلاً، أو عاقل، أو على وصفٍ لم يوضع هذا الاسم للدلالة عليه ألبتة. قيل لك: قُصارَى حديثك هذا أنّا أجرينا اسم الأسد على الرجل المشبَّه بالأسد على طريق التأويل والتخييل، أفليس على كل حال قد أجريناه على ما ليس بأسد على الحقيقة؟ وألسنا قد جعلنا له مذهباً لم يكن له في أصل الوضع. َّر أن يكون هذا السَّبع بهذا الاسم أوْلَى من غيره، فأمّا استحقاق الحيّ القادر أن يُثبَت الفعل له واختصاصه بهذا الإثبات دون كل شيء سواه، فبفرض العقل ونصِّهِ لا باللغة، فقد نقلتَ الأسد عن شيء هو أصل فيه باللغة لا بالعقل، وأمَّا فَعَلَ فلم تنقله عن الموضع الذي وضعته اللغة فيه، لأنه كما مضى، موضوع لإثبات الفعل للشيء في زمان ماضٍ، وهو في قولك: فَعَلَ الربيع باقٍ على هذه الحقيقة غير زائلٍ عنها، ولن يستحقَّ اللفظُ الوصفَ بأنه مجازٌ، حتى يجريَ على شيء لم يوضع له في الأصل، وإثبات الفعل لغير مستحقِّه، ولما ليس بفاعل على الحقيقة، لا يُخرِج

الصفحة 410