كتاب المذاهب الأدبية في الشعر الحديث لجنوب المملكة العربية السعودية

وتكونت من النعيم والوفرة والسخاء، فقد عاشت في بيئة مترعة معشوشبة، غنية بالزروع والأشجار والثمار، تداعبها نسمة الوادي بأوتار الرياح، وهي تروح وتغدو بين أشعة الشمس ودفئها، وبين حنان الظلال ورقته، وتزهو بسحرها في دلال النساء، وصبوة الحسن، ونشوة الجمال، لا نشوة الخمر، ولا دلال الراح، وتضاءلت عيون المها والظبا أمام جمال عينيها، وجفَّ غصن البان عند قدِّها الطري، وتصلب الرماح بجوار خصوبة قامتها، وأما وجهها فلا يحتاج إلى صناعة النساء اليوم من التسريحات والتشكيلات؛ لأن السحر قد أقام عندها واستراح.
هذه الأوصاف التي تصور جمال المرأة يستغني عنها الشاعر، وإنما الذي أسف فيه شعراء المجون أنهم صوروا نزواتهم وأبرزوا شهواتهم عند كل وصف، وشاعرنا السنوسي ليس من هؤلاء الشعراء، بل ترفع في غزله وخلقه عن ذلك، ولهذا أطلقت على شعره في الغزل شعر الوجدان والتأمل.
ولهذا كان الشعر الوجداني والتأملي لا يشمل الغزل وحده، ولكن قد يصور فيه الشاعر تأملاته في الحياة، كما في قصيدته "أمامك الدنيا" يقول1:
أمامك الدنيا ترهق القلب والعقلا ... فيا خاطري رفقًا وناظري مهلا
تحير فيها المصلحون وأعجزت ... نهى الفيلسوف الفذ والشاعر الفحلا
طلاسم تعيي الفكر فهمًا فينحني ... خضوعا لها مهما تكبر واستعلى
يعيش بها الإنسان طفلًا وإن بدا ... لعينيه كهلًا ثم يتركها طفلا
إلى قوله:
ولذ بحِمَى الإيمان وارض بما قضى ... به الله واعلم أن حكمته أعلى
فللدين فضل في الحياة لأنها ... بغير الهدى تغدو جحيمًا به نصلى
وثق أن من أعطى الحياة جمالها ... وأقواتها لم يهمل الدود والنملا
ومثل قصيدة "الموج والشاطئ"، وقصيدة "لمع السراب" التي يقول فيها:
أرح عينيك من لمع السراب ... وقلبك من أمانيه العذاب
وعد عن قشور وإن تراءت ... رقاقًا في الضباب وفي السحاب
فقد فاض الطلاء على حياة ... تفيض بها الكئوس بلا شراب
يضوع عبيرها من غير عطر ... وتزخر كالبحور بلا عباب
وتزهو بالرياض بلا زهور ... وتزهو بالثمار بلا لباب
__________
1 الينابيع: 30/ 32.

الصفحة 100